2023-08-03
إستراتيجية الدفاع الشامل بدولة سنغافورة
في عام 1984، أطلقت سنغافورة استراتيجية الدفاع الشامل، وكانت واحدة من أوائل الدول في العصر الحديث التي تبنت مثل هذه السياسة بناءً على المفهوم الأوسع للأمن القومي. عادةً ما يرتبط مفهوم الدفاع بالأمن العسكري، ولكن حصر هذا المفهوم على القطاع العسكري كان محدودًا جدًا في حالة سنغافورة. معلوم أن الدفاع والتنمية مترابطان، لذا سعت السلطات إلى استغلال أوجه التآزر والتنسيق من خلال اعتماد نهج أمني متكامل. وهكذا ظهر مفهوم الدفاع الشامل، حيث يجمع بين عناصر “المرونة الاجتماعية” الناعمة التي تهدف إلى تعزيز الروح الجماعية والهوية الوطنية، والديناميكيات الصناعية والتكنولوجية الصلبة لـ “قدرات الدفاع”.
رون ماثيوز، فيترياني بينتانج تيمور
وقد ساهم الترابط بين القدرات المدنية والعسكري الناتج عن ذلك، جنبًا إلى جنب مع عزم الحكومة على دفع حدود الابتكار، في تحقيق سنغافورة لتحول ثقافي واقتصادي وعسكري ملحوظ. في هذا الجانب، حققت الدولة توسعًا سريعًا في القدرات الدفاعية والتنموية؛ ما جعلها تتفوق على معظم الدول المتحررة من الاستعمار الأخرى المعاصرة. ومع ذلك، كشف البيئة العالمية المتغيرة والمضطربة في السنوات الأخيرة عن ثمة تصدعات محتملة في نموذج الدفاع الشامل؛ وهو ما يتطلب من السلطات المعنية بدولة سنغافورة أن تنظر إليها بعين الاعتبار، وأن تسعى إلى تسويتها قدر المستطاع.
التحول الاقتصادي الدفاعي
يمكن النظر إلى دولة سنغافورة على أنها حالة تستحق الدراسة لمفهوم التحول الاقتصادي الدفاعي؛ حيث أحرزت الدولة في غضون أقل من ثلاثة عقود تقدمًا ملحوظًا لتنتقل من الاعتماد، إستراتيجيًا، على السلطات المستعمرة لأراضيها، بريطانيا العظمى، لتصبح أقوى دولة في مجال الدفاع في جنوب شرق آسيا. يتم تطبيق استراتيجية الدفاع الشامل في سنغافورة منذ عام 1984، ويبدو أنها تحقق نجاحًا في هذا الجانب، رغم التحديات الناشئة في السنوات الأخيرة، كما سيتم مناقشته لاحقًا، مما يجعلها مرجعًا للسياسات التي يمكن تطبيقها لتعظيم استغلال الموارد مع الالتزام، بمفهومه الأوسع، بمسألة الدفاع المشترك. لذا، سيكون من المفيد من وجهة نظر مقارنة فهم إمكانية تطبيق استراتيجية الدفاع الشامل السنغافورية بوتيرة مماثلة وتطبيقها كنموذج معياري في الدول الأخرى التي تسعى إلى تحقيق المفهوم الأوسع للأمن القومي. تهدف هذه الورقة البحثية إلى رصد الركائز الرئيسية لاستراتيجية الدفاع الشامل في سنغافورة وشرحها وتحليلها، لمعرفة مدى نجاحها. تبدأ هذه الورقة البحثية بتحديد العناصر الأساسية لإستراتيجية الدفاع الشامل في سنغافورة من خلال تحليل نقدي لتطبيقات هذا المفهوم في أماكن أخرى من العالم. ثم ينتقل البحث إلى تقييم تطبيقات هذا المفهوم على دولة سنغافورة. يقوم هذا البحث كذلك بإجراء دراسة متعمقة للركائز الستة لاستراتيجية الدفاع الشامل، بما في ذلك التقييم النقدي للقدرات المدنية والعسكرية والاجتماعية الثقافية والنفسية التي تشكل أساس النموذج. وتنتهي الورقة البحثية بتقديم استنتاجات بناءً على نتائج التحليل.
استراتيجية «الدفاع الشامل»
الغرض من هذه الورقة البحثية هو تقييم استراتيجية «الدفاع الشامل» في سنغافورة. أطلقت سنغافورة هذا النموذج في عام 1984 مستنيرة بنموذج سويسرا ونموذج السويد، وكذلك بالاستناد، نوعًا ما، إلى النهج الفنلندي. جميع هذه النماذج تؤكد على أهمية الدفاع المدني والنفسي، كما أن جميع هذه النماذج أضافت، مؤخرًا، ركيزة الأمن الرقمي/السيبراني إلى الأطر الشاملة الدفاعية لديها. يرتبط مفهوم الدفاع الشامل بالسياسات المعاصرة، ويركز على توسيع نطاق الأمن القومي عن طريق توفير نموذج من شأنه تحقيق الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع والمرونة المدنية والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية. جاءت استراتيجية سنغافورة للدفاع الشامل على ستة ركائز فريدة ومترابطة، والتي تعكس نهج التنمية المدنية العسكرية التكاملية للدولة الواقعة على جزيرة في البحر. وحتى الآن تعمل الجوانب الاجتماعية لهذه الاستراتيجية على دعم وتعزيز التقدم في كل من الدفاع التقليدي والاقتصاد بمفهومه الأوسع. التكنولوجيا هي العنصر المشترك في عملية التنمية، ومن خلال تحليل الورقة البحثية، يتضح أن أولوية السياسات ذات الصلة بالبحث والتطوير والابتكار التكنولوجي هي مسألة حيوية لتحقيق مزايا ديناميكية وتنافسية للتنمية المدنية العسكرية؛ وهذه مسألة مهمة؛ لأن التنمية المدنية العسكرية الغنية بالمعرفة ستتغلب على نقص الكتلة الحرجة، وستعزز الشراكات العالمية في مجال الاقتصاد التكنولوجي العالي والدفاع. تعمل الاستثمارات التي ترعاها الحكومة من خلال الإستراتيجيات طويلة المدى على ضمان استمرار هذه المنهجية في المستقبل، مما ينبئ بانتقال سنغافورة إلى مجالات تكنولوجية ذات قيمة أعلى في الأجيال القادمة.
قوة نموذج الدفاع الشامل
ومع ذلك، تعتمد قوة نموذج الدفاع الشامل على تكامل كافة أجزائه، فلا تعمل هذه الأركان بمعزل عن بعضها، وأي ضعف في جانب واحد سيؤثر على الجوانب الأخرى. تواجه الاقتصاد القوي لسنغافورة، الذي اكتسب تقريبًا حالة أسطورية بين المراقبين الأجانب منذ الستينيات، الآن بعض الصعوبات؛ حيث يتباطأ النمو الاقتصادي، وهناك أزمة في تكلفة المعيشة، كما أن قيمة الأصول آخذة في التآكل، وتسببت العواصف الاقتصادية في جعل الركائز الأخرى أقل استقرارًا. كما أن العِقد الاجتماعي عرضة للخطر، مع تراجع الثقة في الحكومة، على ما يبدو، بعد اتخاذ الحكومة لقرارات مثيرة للجدل، خاصة في مجالات التوزيع السكاني والهجرة. هناك أيضًا خطر التأثيرات المناوئة التي تؤثر على الركيزة النفسية بسبب تصدع العِقد الثقافي والوحدة الوطنية. قد تكون الروابط الاجتماعية التي تربط بين العناصر المتنوعة لحياة المجتمع، بما في ذلك الأقليات العرقية، قد بدأت في التفكك. تطرح البيئة التي تعيشها سنغافورة حاليًا سؤالاً حول ما إذا كانت استراتيجية “الدفاع الشامل” قد نجحت حتى الآن بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية المواتية. تؤدي التغيرات المتزايدة على الصعيدين الدولي والوطني إلى مجموعة واسعة من الضغوط الأمنية، وتستجيب عملية صنع السياسات الحكومية لهذا التغيرات بشكل إيجابي، ولكن يجب الحرص على مواصلة تطبيق سلسلة من التدابير المرنة والمتجاوبة والمتوازنة لضمان استمرار الثقة وسلامة ركائز إستراتيجية الدفاع الشامل.
لا يوجد تعليقات