مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-11-30

الأمن الإنساني.. بديلاً عن الأمن القومي التقليدي

نحو مفهوم جديد للأمن القومي
لم يعد مفهوم الأمن القومي التقليدي الذي يقتصر، أو يعتمد على القدرة العسكرية وحدها، ملائماً أو مُلبياً لمتطلبات الدول وآمال شعوبها، إذ يجب أن يكون هناك تكامل في الأمن القومي بين متغيرات أربعة، هي: القدرة العسكرية، والأبعاد الاقتصادية المتصلة بالعدالة الاجتماعية، والأبعاد السياسية التي تمتد إلى المشاركة الفاعلة في صنع سياسات الدول الوطنية وتغطي مفهوم المواطنة بما تعنيه من عدم التمييز بين المواطنين، بالإضافة إلى الاهتمام بالأمن البيئي.
 
إعداد: العميد / حسين حمودة مصطفى
 
وقد تطورت استراتيجيات الأمن القومي في الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية لتتضمن كلاً من الحرية والعدالة كأساسين لا يتحقق الأمن القومي من دونهما. ويعد الأمن الإنساني الأملَ المنشود للدول الكبرى لتلافي أوجه القصور التي اعترت الأمن القومي التقليدي ومفاهيمه.
 
الأمن والتنمية 
ويرتبط "الأمن الإنساني“Human Security- بصورة عامة، بالتحرر من الخوف والتحرر من الحاجة أو الفقر "Freedom from fear, Freedom from want"، وهما شرطان مسبقان من شروط التنمية الإنسانية. وهذا المفهوم كما عمَّمَه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي  “UNDP” يُثمن عالياً هذه الأبعاد المعنوية والمادية للحياة البشرية، وهي الأبعاد التي تحمي الحقوق الأساسية للناس وسبل معيشتهم وتمنحهم القوة لتحقيق ذواتهم وامتلاك حرياتهم في المدى الاجتماعي الأوسع. ومع ذلك لا يُفهم أمن الإنسان في العديد من بلدان العالم الثالث، ولاسيما الدول العربية والإفريقية، إلا من خلال انعدامه، فهو نقص يتسبب انتشاره وحِدَّتُه في تعريض الناس لمخاطر وتهديدات كثيرة تطاول مختلف نواحي حياتهم.
 
مفهوم الأمن في النظام العالمي الجديد
وللأمن الإنساني مفهوم على الصعيد العالمي، ففي النظام العالمي المتقلب الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة، تضاعفت التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه سلامة الدول، فمن الخارج تضافرت تحديات التلوث البيئي والإرهاب الدولي والتنقلات السكانية الواسعة والنظام المالي العالمي المتداعي، علاوة على تهديدات أخرى عابرة للحدود، مثل: تفشي الأوبئة، وتجارة المخدرات، والاتِّجار بالبشر، لتحاصر الأفكار التقليدية المرتبطة بمفهوم الأمن. أما من الداخل، فقد جاء انتشار الفقر والبطالة والحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والإثنية وقمع الدولة، ليظهر الدور الضعيف والسلبي الذي يمكن أن تؤديه الدولة في تأمين حياة مواطنيها ومعيشتهم. ولا عجب، إذاً أن يتحول الاهتمام من حماية سلامة الدولة إلى حماية أرواح المواطنين القاطنين في أراضيها، ومن هذا التحول ينبثق مفهوم أمن الإنسان.
 
وخلافاً للتنمية البشرية، ليس لأمن الإنسان تعريف مقبول على نطاق واسع، ومع أن الاصطلاح قد أُدرج في الخطاب السياسي والأمني والتنموي على مدى العقدين الماضيين، فإن نطاق المفهوم الكائن وراءه يتباين من سياق إلى آخر، وبرغم التنوع في تعريفات أمن الإنسان بالنظر إلى نطاقه، فإن نقطة الارتكاز المشترك فيما بينها هي الفرد لا الدولة، وهي السمة الرئيسة التي تميز مفهوم الأمن الإنساني عن المفهوم التقليدي "القديم" للأمن القومي.
 
وفي غياب تعريف شامل ومعتمد عالمياً لأمن الإنسان تتبناه الأطراف المعنية كافة، جرت محاولات شتى على الصعيد الدولي لتحديد نطاق هذا المفهوم. وبرزت- على العموم- مدرستان للتأويل يندرج في إطارهما معظم التعريفات الحالية، ويظهر فيهما تصوُّران لأمن الإنسان، أحدهما: ضيق، والآخر: واسع. ويمكن للمرء على هذا الأساس أن يقارن بين التعريفات المختلفة، مستخدماً طيفاً ذا حدين، الحد الضيق، مع تركيزه على الإنسان الفرد، يقصد الدلالة على التهديدات العنيفة، مثل: تلك الناجمة عن الألغام الأرضية، وانتشار الأسلحة الصغيرة، وحالات الإخلال المفرط بحقوق الإنسان. أما الحد العريض في هذا الطيف فيشتمل على قائمة طويلة من التهديدات الممكنة التي تراوح بين التقليدي منها مثل الحرب، والتنموي منها كالتهديدات المرتبطة بمجالات الصحة والفقر والبيئة.
 
مفهوم الأمن في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
ويطرح التصنيف الذي اعتمده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير التنمية البشرية للعام 1994م مثالاً رائداً لهذه المقاربة، وقد عرض ذلك التقرير سبعة أبعاد لأمن الإنسان، وهي: الأمن الاقتصادي: الذي يتهدده الفقر، والأمن الغذائي: الذي يتهدده الجوع والمجاعة، والأمن الصحي: الذي يتهدده أشكال الأذى والأمراض، والأمن البيئي: الذي يتهدده التلوث والتدهور البيئي ونضوب الموارد، والأمن الشخصي: الذي يتهدده الجريمة والعنف، والأمن السياسي: الذي يتهدده القمع السياسي، والأمن الاجتماعي: الذي يتهدده النزاعات الإثنية أو الطائفية.
 
وتتجلى السمات البارزة في تصنيف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمفهوم أمن الإنسان في اتساع نطاقه مقارنة بالنظرة التقليدية إلى هذا المفهوم، وباشتماله على حرية الإنسان والحياة البشرية بوصفها قيمة محورية، وبتحديده الأسباب والآثار المتداخلة في أبعاد أمن الإنسان، وبتركيزه على الإنسان الفرد، ومن الأهمية بمكان أن مقاربة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقر بأن طبيعة علاقة الفرد بالدولة تمثل واحداً من التهديدات الأخرى المحتملة لأمن الإنسان.
 
ويؤكد تقرير التنمية البشرية للعام 1994 الالتزام بنظام عالمي "متحرر من الخوف، ومتحرر من الحاجة" كما تم عرضه في "إعلان الألفية - "Millennium Declaration الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة في 14 من ديسمبر عام 2000، والذي أدى بدوره إلى تشكيل "لجنة أمن الإنسان" في عام 2001. وقد قامت اللجنة في وقت لاحق بتوسيع تعريفها لأمن الإنسان إلى ما هو أبعد من مجرد البقاء على قيد الحياة، ويتجاوز التعريف مجرد تعزيز قدرة الناس على الصمود في وجه التهديدات ليتضمن، إضافة إلى ذلك الدفاع عن حقوقهم الإنسانية الحقيقية، وحماية سبل العيش والكرامة الإنسانية ضد ما يمكن تفاديه من الانتكاسات، وتمكينهم من التغلب على التهديدات أو تحاشيها،
 
من خلال الجهود الفردية والجماعية. إن أمن الإنسان وفق هذا التعريف، لا يقتصر على البقاء فحسب، بل هو وضع الناس المعرضين للخطر على مسار أكثر أماناً في سعيهم لحياة أفضل، وعلى أسس راسخة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 
وإيماءً إلى ما سبق، فقد خصص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المكتب الإقليمي للدول العربية، "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009" لموضوع "تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية"، وهو يشمل الدول الإفريقية العربية، وذلك للإجابة على سؤال: لماذا كانت العقبات التي تعترض سبيل التنمية في المنطقة عصيَّةً على الحل؟ وكانت الإجابة تكمن في هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة، وضعفها تجاه التدخل الخارجي، وتضافرت هذه العناصر لتقويض أمن الإنسان وهو الأساس المادي والمعنوي لحماية الحياة وضمانها.
 
الأمن وسيادة الدول
وهذا المفهوم الجديد للأمن الإنساني أصبح من أولويات اهتمامات المجتمع العالمي من منظمة الأمم المتحدة والوكالات الدولية المتخصصة والمجتمع المدني؛ بسبب تداعيات التهديدات على الأمن والسلم الدوليين. فجميع الوسائل لمعالجتها متاحة حتى العسكرية منها، من أجل توفير الحاجيات الأساسية للإنسان التي عجزت الدول منفردة عن تأمينها، وهذه المتغيرات في عالم اليوم أدت إلى فرض قيود على سيادة الدول التي لم تعد مطلقة، فأصبحت سلطة الدولة مقيدة بواسطة قرارات مجلس الأمن، والالتزامات التي فرضتها المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية، وتوصيات ومقترحات المنظمات غير الحكومية، ما جعل السيادة النسبية تشكل مفهوماً جديداً في العلاقات الدولية وفتح الباب أمام الولايات المتحدة الأمريكية والغرب للتدخل في شؤون مختلف دول العالم تحت دعوى التدخل لأغراض إنسانية وفق معايير وسياسات انتقائية “double standard policy”.
 
ويُعد الصمت الأمريكي على ممارسات العدو الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة وإحجامه عن إنفاذ قرارات الشرعية الدولية نموذجاً واضحاً في هذا الشأن.
 
وتستمد أهمية دراسة موضوع الأمن الإنساني من بروز أبعاد جديدة للأمن بالمفهوم الإنساني ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعالم العربي ولإفريقيا بوجه خاص، حيث لم يعد الأمن قاصراً على تحقيق الأمن الوطني للدول ككيانات ذات سيادة، ولكن أصبح يشمل أيضاً أبعاداً أخرى أمنية واقتصادية واجتماعية وبيئية تؤثر في بقاء الإنسان ذاته. وقد ارتبطت بهذه الأبعاد ظواهر عدة نتيجة هيمنة الليبرالية الجديدة على المستوى العالمي، ومن هذه الظواهر: انعدام العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة والصراعات الأهلية العنيفة والصراعات المذهبية على نطاق واسع في المنطقة. ولهذه الظواهر تأثيراتها في الأمن والاستقرار السياسي والتنمية في المنطقة. وقد تزايد الاهتمام على المستوى العالمي بالأمن الإنساني كبعد جديد في العلاقات الدولية؛ نظراً إلى ارتباطه وتأثيره في الأمن والسلم الدوليين.
 
كيف يتحقق الأمن الإنساني؟
وهنا يجب تركيز الاهتمام على بعض الاعتبارات الواجب دراستها ومراعاتها لتحقيق الأمن الإنساني، وهي:
ارتباط إعادة ترتيب الأولويات في سياسات الدول وفقاً لمفهوم الأمن الإنساني بالتحولات في طبيعة التهديدات ومصادرها، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
تأثر بروز قضايا الأمن الإنساني كبديل لمفهوم الأمن التقليدي قوة وضعفاً بمخرجات السياسة الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
تأثر تحقيق الأمن الإنساني في المنطقة العربية وإفريقيا بالسلب؛ نتيجة تركيز دولها على الأمن الوطني بالمفهوم التقليدي.
اعتبار تحقيق الأمن الإنساني في المنطقة العربية وإفريقيا شرطاً مسبقاً لتحقيق الاستقرار السياسي والتنمية في بلدانها.
 
الأمن والتدخل الدولي لمكافحة الإرهاب
ونظراً إلى حداثة موضوع الأمن الإنساني وتوسع الاهتمامات العالمية به، فقد برزت اجتهادات لمعالجة جميع  القضايا التي تهدد الأمن الإنساني خاصة الأمنية والسياسية منها (النزاعات الداخلية ومسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان) في ضوء ارتباطه القوي بالسلم والأمن الدوليين، وللوقوف على تداعيات وانعكاسات دور المجتمع الدولي في سياق حماية حقوق الإنسان الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، على سيادة الدول، وماهية الأُطُر التنظيمية والقانونية لمعالجة المعضلة القانونية والسياسية التي طرحها حق التدخل الإنساني، والالتباس في مفهوم الأمن الإنساني.
 
فقضية الأمن الإنساني وحق التدخل في شؤون الدول لأغراض إنسانية أصبحت مسؤولية دولية، ومحاولة إعطائه غطاءً قانونياً في إطار الشرعية الدولية لتوفير الحاجيات الأساسية للإنسان، كل ذلك يطرح معضلة قانونية وسياسية حول مسألة المفهوم التقليدي لسيادة الدولة، ما يتطلب تعديل ميثاق الأمم المتحدة بما ينسجم مع المتغيرات الدولية الجديدة. وقد جرت محاولات عدة في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة وما يرتبط بها من لجان دولية متخصصة لإدخال مواد جديدة في ميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن السعي إلى عقد معاهدات دولية جماعية في هذا المضمار المتعلق بالتدخل الإنساني وبمبدأ سيادة الدولة، وهو الأمر الذي يجب التحسب له.
 
ومفهوم الأمن الإنساني في ظل التهديدات العالمية الجديدة، ودور المجتمع العالمي في تحقيقه يتطلبان الوقوف على كل من التهديدات العالمية الجديدة وتطور مضمون الأمن الإنساني، ودور المجتمع العالمي في تحقيق الأمن الإنساني، وقضية سيادة الدول ما بين الحقوق السياسية والأمنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال المؤسسات الاقتصادية الدولية، حتى تتفادى الإشكاليات في التطبيق أو الالتباس في مفهوم الأمن الإنساني ذاته.
 
ويشار إلى أن من أبرز قضايا الأمن الإنساني في المنطقة: الصراعات الأهلية بأشكالها كافة، وسبل دعم الاندماج الوطني على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وسبل التعافي من الصراعات والعنف وإرساء الأمن العام وتحقيق المصالحة والتعايش بين الشعوب، والأمن الغذائي والصحي، ومهارات التعليم والقيم المرجوة منها، وحماية المرأة وتمكينها، والحوكمة.
 
الأمن البيئي وتجربة دولة الإمارات العربية المتحدةولعل من أبرز الملامح التي تظهر أهمية الأخذ بمفهوم الأمن الإنساني بديلاً عن المفهوم التقليدي للأمن القومي هو الاهتمام الملحوظ بالأمن البيئي، والمثير للاهتمام في هذا الشأن أن دراسات تشير إلى وجود شبه توحد جغرافي بين المناطق التي تشهد صراعات عنيفة وحروب أهلية، والمناطق التي يضرب فيها تغير المناخ بقوة، فيما يطلق عليه بثلاثية "التجمع الكارثي" للفقر والعنف وتغير المناخ. 
 
وتعد تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة تجربة رائدة بحق فيما يتعلق بالأمن البيئي، ولاسيما في مجال برنامج الطاقة النووية السلمية، وكذا تعزيز مقومات نهج الاقتصاد الأخضر، وهي متوافقة مع مقاييس مبادئ المشروع الدولي للتنمية المُستدامة.
 
خاتمة
وفي النهاية، يمكن القول إن النجاح في مواجهة التحديات السالفة الذكر، والتعامل الرشيد مع قضايا الأمن الإنساني، يظلان شرطين جوهريين لتعزيز أمن الإنسان في بلدان المنطقة.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره