مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2024-11-03

البريكس ودور القوى الصاعدة في تحقيق التوازن الدولي

احتضنت موسكو ما بين 22 و24 أكتوبر 2024 في قازان قمة البريكس في نسخته الجديدة و هو الحدث الأكبر الذي تنظمه روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا بمشاركة أكثر من 20 من قادة الدول، و تأتي القمة في توقيت يسعى فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإظهار فشل المحاولات الغربية لعزل بلاده بسبب حربها المستمرة مع أوكرانيا  منذ عامين ونصف عام.

د محمد عصام لعروسي
إن فكرة وفلسفة البريكس تتمثل في إيقاف الهيمنة والوصاية الغربية على العالم، ويتشكل محور المعارضة الذي يضم قطبين كبيرين هما الصين وروسيا، ومن جهة أخرى، الدول الصاعدة والمتطلعة الى الانصاف والعدل والمشاركة في صناعة القرار كالهند وجنوب إفريقيا و البرازيل، هذا بالإضافة الى دول إقليمية أصبح لها وزن كبير في الساحة الاقليمية والدولية والتي انضمت مؤخرا الى منظمة البريكس كدولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية  السعودية و مصر و إيران و أثيوبيا.
عرفت القمة مناقشة العديد من الملفات الرئيسية المطروحة في جدول الأعمال، ومن أهم المقترحات مقترح بوتين إنشاء نظام دفع خاص لبريكس يفترض أن يكون منافسا لنظام سويفت، الشبكة المالية العالمية التي استُبعدت منها روسيا في 2022، إضافة إلى النزاع المتصاعد في الشرق الأوسط. فهل تستطيع منظمة البريكس أن تكون صوت العالم النامي في مواجهة القواعد المعيارية الغربية التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي؟ أم أنها ربما تتحول الى واجهة تدافع بها روسيا والصين عن مصالحهما ونفوذهما في صراعهما مع الغرب.

أولا: بريكس نموذج متطور لتعددية الاقطابMultilateralism
رغم أن الغايات الاقتصادية والتنموية تغلب على أهداف تكتل بريكس، فإن ذلك لا يخفي تطلعات سياسية تتعلق بمحاولة تحقيق عالم متعدد الأقطاب، ويبرز ذلك في تصريحات بعض زعماء دول المجموعة، خصوصا الرئيس البرازيلي  لولا دا سيلفا اليساري المناهض للعولمة، بالإضافة إلى المسؤولين الروس.
وتتجلى أهم أهداف المنظمة في تحقيق نمو اقتصادي شامل ومستدام من خلال مكافحة الفقر وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي وتحسين نوعية النمو، وتعزيز التنمية الاقتصادية المبتكرة والقائمة على التكنولوجيا المتقدمة، و زيادة المشاركة والتعاون مع البلدان غير الأعضاء في المجموعة، وتعزيز الأمن والسلام لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وإصلاح المؤسسات المالية الدولية لتمثيل أفضل للاقتصادات الناشئة والنامية، وتعزيز التجارة الدولية وبيئة الاستثمار بين دول المجموعة، والحفاظ على استقرار النظم التجارية متعددة الأطراف بالتعاون مع المجتمع الدولي، وكذا تقديم المساعدة المالية للدول الأعضاء وغير الأعضاء، تحقيق التنمية والتعاون، ودعم المشاريع والبنية التحتية لدول المجموعة، وتحقيق التكامل الاقتصادي للدول الأعضاء.

كما تستهدف المنظمة تحقيق التوازن الدولي والخروج من سيطرة الغرب الاقتصادية، وتعديل قواعد العولمة لتستفيد منها كل دول العالم، تفعيل وتبادل العملات المحلية بين دول المجموعة، العمل على إنشاء سوق مشتركة للتجارة الحرة وعملة موحدة والبحث عن فرص استثمار وتطوير آفاق اقتصادية وشراكات جديدة و محاولة الخروج من اشتراطات صندوق النقد الدولي المجحفة، ومواجهة الأزمات العالمية وتنويع الشراكات.
تشكل مبادئ وأهداف البريكس مجمل طموحات الدول النامية في تحقيق نظام عالمي منصف وعادل يقوم على اقتسام الفرص الاقتصادية السانحة في اتجاه عالم أكثر انفتاحا على كل الحضارات والاقتصادات في إطار تجسير الهوة العميقة بين دول الشمال والجنوب، لكن هل بمقدور المنظمة أن تتحول الى قوة سياسية واقتصادية فاعلة في المستقبل القريب في ظل التعقيدات التي تشهدها الساحة الدولية والإقليمية؟

ثانيا: البريكس و فرص التغيير
منذ اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية وما ارتبط بها من الحديث حول إعادة تشكيل نظام عالمي جديد، ازداد الاهتمام بتكتل «بريكس» من طرف العديد من الدول، في ظل الاتجاه نحو تكتلات جيوسياسية واقتصادية جديدة، خاصة مع بحث روسيا عن شركاء داعمين لها في وجه العقوبات الاقتصادية الغربية. وتحاول البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا تقديم نفسها كممثل لدول الجنوب، وأنها «النموذج البديل عن مجموعة السبع». تعد الأخيرة منتدى يضم قادة أكثر الاقتصادات تقدمًا في العالم، إذ تأسس عام 1975 ويضم ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان وكندا والولايات المتحدة، فيما يشارك الاتحاد الأوروبي بصفته ضيفا رمزيا، لكنه يتمتع بكل حقوق ومسؤوليات الأعضاء باستثناء رئاسة الاجتماعات.
تتمثل أهم العوامل التي تعزز من فرص تغيير النظام العالمي الراهن، في  تقوية المؤسسات الاقتصادية المالية التابعة لمجموعة «بريكس» وترحيب الدول غير الأعضاء في المجموعة بدور هذه المؤسسات. وفي عام 2014، دشنت مجموعة «بريكس» بنك التنمية الجديد برأس مال ابتدائي قدره 50 مليار دولار كبديل للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي.

 ولم يتوقف الأمر على ذلك بل أنشأت المجموعة صندوقًا احتياطيًا للطوارئ لدعم الدول الأعضاء التي تكافح من أجل سداد الديون بهدف تجنب ضغوط السيولة. لم تجذب هذه المشروعات دول مجموعة «بريكس» فقط بل أيضًا العديد من الاقتصادات النامية والناشئة الأخرى التي عانت من تجارب مؤلمة تحت وطأة برامج التقشف القاسية من قبل صندوق النقد الدولي. ولعب ذلك دورًا في تزايد اهتمام المزيد من الدول في الانضمام إلى المجموعة. ومع مرور الأعوام، اكتتبت مصر والإمارات وأوروجواي وبنجلادش عام 2021 في أسهم بنك التنمية الذي أسسته مجموعة دول «بريكس» باستثمارات بلغت 10 مليارات دولار.

ثالثا: البريكس والموقف من الأزمات الدولية
منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، نأت دول مجموعة “بريكس” بنفسها عن الغرب، ولم تشارك الهند أو البرازيل أو جنوب أفريقيا أو الصين في تطبيق العقوبات التي فرضتها الدول الغربية ضد روسيا. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل ارتفعت مستويات التجارة إلى معدلات غير مسبوقة بين روسيا ودول “بريكس” خاصة مع الهند والصين. وعلى وقع ذلك يشعر بعض صناع القرار السياسي في أوروبا والولايات المتحدة بالقلق من أن تصبح مجموعة «بريكس» كيانًا اقتصاديًا للقوى الصاعدة التي تسعى للتأثير على النمو والتنمية في العالم.
وتسعى دول مجموعة «بريكس» بقيادة الصين وروسيا لتعزيز طموحاتها السياسية على الساحة العالمية، يتجلى ذلك في سعي الصين للتوسط من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا، فضلًا عن إجراء تدريبات عسكرية مشتركة بين الصين وروسيا وجنوب إفريقيا في الأخيرة، ولم تخفَ القوى الغربية قلقها إزاء هذه التدريبات واستضافة جنوب إفريقيا لها في فبراير 2022
.
حققت «بريكس» في مسارها منحى تصاعديا، خصوصًا بعد حرب أوكرانيا وعدم مشاركة دول المجموعة في العقوبات المفروضة من الغرب على موسكو، وهو ما يعني المزيد من الاستقلال والسيادة لهذه الدول التي لا ترغب في العيش بعالم القطب الواحد. يستمر الاتجاه التصاعدي الذي حققته «بريكس» خاصة في الصين والهند، لا سيما بعد الإعلان عن تفوق مجموعة «بريكس» لأول مرة على دول مجموعة السبع.

كما دعت دول بريكس إلى وقف لإطلاق نار فوري وشامل بقطاع غزة، منددة بالهجمات الإسرائيلية على أنشطة الإغاثة الإنسانية والبنى التحتية. وذكر الإعلان الختامي، أن الوضع المتدهور والأزمة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في تصاعد، وأن العنف في غزة والضفة الغربية يزايد بشكل غير مسبوق نتيجة العمليات الإسرائيلية.
جاء في إعلان قازان أن دول بريكس ستواصل تطوير التعاون في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والمالية والثقافية والإنسانية، وتعزيز الشراكة الإستراتيجية لجعل النظام الدولي أكثر عدالة. كما اعتبر أن العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب والثانوية تتعارض مع القانون الدولي، داعيا إلى إزالة تلك القيود التي لها آثار سلبية على المجتمعات.

رابعا: المسار الروسي المناهض للغرب
تُعَد قمة قازان الحدث الأكثر أهمية في السياسة الخارجية الروسية لهذه السنة، ويريد بوتين استخدامها لتقديم نفسه على المسرح العالمي كزعيم غير معزول دوليًا، ولكنه يمثل مع دول البريكس «الأغلبية العالمية» المستقبلية (من حيث السكان والموارد) ويريد فرض إعادة تنظيم عالمي متعدد الأقطاب ضد التعددية القائمة على القواعد الحالية.
ومن أجل التأكيد على مطالبتها بمكانة جيوسياسية بارزة، أعادت روسيا تعريف «الأغلبية العالمية» على أنها «الجنوب العالمي والشرق العالمي» في الفترة التي سبقت قمة قازان، حيث ترى روسيا نفسها إلى جانب الصين كقوة رائدة في «الشرق العالمي». بالإضافة إلى الأهمية الجيوسياسية للقمة، فإن التعاون الاقتصادي والوصول الحر إلى أسواق جديدة فضلاً عن إنشاء أدوات مالية وتسوية جديدة لا يهيمن عليها الغرب تشكل أهمية كبرى لروسيا، التي تخضع لعقوبات اقتصادية غربية شاملة بسبب الحرب ضد أوكرانيا. ويتجلى كلا الأمرين في شعار الرئاسة، الذي ينص على: «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

لكن يبدو أن هناك فجوة واسعة بين الطموحات الروسية والواقع الدولي، ذلك أن نية روسيا في وضع دول مجموعة البريكس كبديل لمجموعة الدول السبع الكبرى واتباع مسار معاد للغرب بشكل صارم مازالت صعبة المنال، نظرا لطبيعة النظام الدولي المتشابكة والتي تحكمها المصالح وليس صراع الإيديولوجيات، ذلك أن الدولتين المؤسستين لمجموعة البريكس، الهند والبرازيل، فضلاً عن الدول الأعضاء الجديدة (باستثناء إيران)، والعديد من الدول المرشحة، تتبنى سياسة خارجية واقتصادية متعددة الاتجاهات، تتضمن أيضاً بشكل صريح استمرار التعاون الثنائي مع الغرب، وينطبق هذا أيضاً بشكل حاسم على دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، التي تعتبرها روسيا جزءاً من دائرة مصالحها ونفوذها.

خامسا : الدول الخليجية تساهم في توازنات البريكس
من خلال منظمة البريكس تسعى الدول الخليجية الى تحقيق توازنات اقتصادية واستراتيجية رصينة، حيث تعمل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على توسيع شراكاتهما الاقتصادية مع الصين والهند، حيث أنه عبر مجموعة البريكس، يمكن للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تسهيل وتنسيق استثماراتهما مع الهند التي تسعى إلى الحصول على رأس المال لتطوير البنية التحتية وقطاع التصنيع، وفي المخططات عبر الحدود التي ترعاها الهند، مثل الممر الاقتصادي المقترح مؤخرًا بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

 وعلى نطاق أوسع، فان وجود المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في مجموعة البريكس، يسهم في إعادة التوازن لهذا التكتل بسبب هيمنة الصين داخل المنظمة والمساعدة في تهدئة العلاقات بين نيودلهي وبكين.

قد تعمل مجموعة البريكس الموسعة على تعزيز قوة التحالفات غير الغربية الأخرى في المنتديات الاقتصادية العالمية، وإعادة تشكيلها في نهاية المطاف لتتماشى بشكل أفضل مع عالم متعدد الأقطاب الناشئ. على سبيل المثال، من المتوقع أن يستفيد مجلس التعاون الخليجي من انضمام اثنين من أعضائه البارزين إلى مجموعة البريكس، نظراً للدور المتنامي الذي تلعبه هذه المجموعة ضمن مجموعة العشرين كقوة موازنة لكتلة مجموعة السبع الغربية. ومن الممكن أن يؤدي دمج دول مثل إندونيسيا أو ماليزيا في مجموعة البريكس إلى تعزيز هذا المسعى التعاوني، وربط رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد الأفريقي ضمن إطار متعدد الأطراف واحد غير خاضع لسيطرة الغرب.

وبعيدا عن هذه الحوافز والمحركات المشتركة، فإن كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تمتلكان مبررات فريدة لعضوية مجموعة البريكس، حيث تلعب الإمارات العربية المتحدة  دورا مهما في مجالات الطاقة والتجارة والتمويل الدوليين ــ ويشكل إدراجها في مجموعة البريكس شهادة على مكانتها كمركز عالمي تحقق بفضل المجهودات الكبيرة التي بدلتها القيادة الاماراتية وخاصة في توظيف القوة الناعمة لإنجاز أهداف و طموحات عالمية . وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن الانضمام إلى مجموعة البريكس يعني تحولا محوريا من دولة متقاربة مع المحور الأمريكي إلى قوة إقليمية مستقلة ذات نفوذ دولي، وهو ما يعكس المسار الذي شهدته تركيا على مدى السنوات العشرين الماضية.
 
خاتمة
إن توسيع دائرة انضمام الدول لمنظمة البريكس وتعزيز دورها الاقتصادي والسياسي، قد يساعد على خلق تحالف عالمي رصين يمكن من تجاوز بعض الحواجز التي تحد من نفوذ هذه الكتلة  ضمن نظام تهيمن عليه القوى الغربية. ويتمثل الهدف، على الأمد البعيد، في إعادة كتابة قواعد  نظام متعدد الأقطاب وإدخال آليات مبتكرة للتعاون الدولي، والاستفادة من التقنيات الرقمية الجديدة وتعزيز الاتصال و التشبيك العالمي. كما يمكن لدول كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن تستغل  عضويتها ضمن مجموعة البريكس+ لتولي دور نشط في تشكيل هذا المشهد الناشئ، وخدمة القضايا العربية و الإسلامية.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره