2023-08-03
الجيوش والتغيرات المناخية.. تأثير متبادل
أضحت التغيرات المناخية مصدراً رئيسياً لتهديد السلم والأمن الدوليين، فلم تعد المصادر التقليدية العسكرية مثل الحروب بين الدول والحروب الأهلية داخل الدول والإرهاب والانتشار النووي، هي فقط المهدد للسلم والأمن الدوليين، بل هناك أيضا المصادر غير التقليدية وغير العسكرية لتهديد السلم الدولي، وعلى رأسها الأوبئة مثل كورونا وتداعيات التغيرات المناخية، مثل الحرائق والفيضانات والتصحر والجفاف وغيرها. فقد أصبحت ضحايا التغيرات المناخية من القتلى والضحايا من اللاجئين والمشردين والمهاجرين، لا تقل عن ضحايا الحروب العسكرية والصراعات المسلحة، ويصل عددهم إلى الملايين.
بقلم: د. أحمد سيد أحمد
فقد أدت التغيرات المناخية لأثار سلبية وتداعيات خطيرة على كوكب الأرض وتصاعد ظواهر الكوارث الطبيعية نتيجة لارتفاع درجة حرارة الأرض وتزايد الانبعاثات الكربونية الناتجة عن النشاط البشرى من الصناعة واستخدام الوقود الأحفوري من النفط والغاز والفحم، وتزايد العوادم ومصادر التلوث. وقد ترتب على ذلك تزايد معدلات حرائق الغابات في مناطق مختلفة من العالم في أفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها، كذلك تزايد معدلات الفيضانات والأعاصير كما حدث في الهند وباكستان ودول أسيوية عديدة وكذلك في دول أفريقية، إضافة إلى ارتفاع معدلات الزلازل والكوارث الطبيعية، كما حدث في تركيا وسوريا في شهر فبراير الماضي, إضافة إلى ارتفاع معدلات التصحر خاصة في أفريقيا وتحديداً في منطقة القرن الأفريقي نتيجة للجفاف وانخفاض منسوب الأنهار وشح الأمطار. كما أن تداعيات التغيرات المناخية تمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين من منظور أنها تهدد كل دول العالم وكل القارات، ولا توجد دولة أو منطقة في العالم بمنأى عن آثار التغيرات المناخية.
التغيرات المناخية وتهديد السلم الدولي
أدت التغيرات المناخية إلى تداعيات سلبية عديدة تهدد السلم والأمن الدوليين من عدة زوايا:
أولها: تأثر الأمن الغذائي العالمي: أدى التصحر وجفاف الأنهار وشح الأمطار وحرائق الغابات، إلى تراجع المساحات المزروعة في مناطق مختلفة من العالم، وهو ما أدى إلى تعرض الكثير من سكان العالم خاصة في أفريقيا مثل الصومال ومنطقة القرن الأفريقي، لخطر المجاعة والجوع, إضافة إلى ارتفاع أسعار الغذاء عالميا خاصة السلع الإستراتيجية مثل القمح وهو ما أدى إلى ارتفاع تكلفة الإنفاق على الغذاء من جانب العديد من الدول النامية، وقد أثر ذلك سلباً على ترتيب أولوياتها وعلى عملية التنمية في ظل توجيه الموارد نحو تأمين الغذاء واستيراده، إضافة إلى أن الأزمات الاقتصادية العالمية والحرب الروسية الأوكرانية فاقمت من معاناة الدول النامية وارتفاع أسعار الغذاء وارتفاع معدلات التضخم.
ثانيها: تزايد معدلات الهجرة غير المشروعة: خاصة من أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، فقد أدت التغيرات المناخية في أفريقيا، إضافة إلى الحروب الأهلية والإرهاب، إلى تزايد معدلات الفقر والبطالة، في الكثير من الدول الأفريقية خاصة جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل والصحراء، وهو ما دفع الكثير من سكان تلك الدول خاصة في منطقة الساحل والصحراء ومنطقة القرن الأفريقي، إلى المخاطرة بحياتهم والهجرة غير المشروعة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط عبر المراكب وشبكات التهريب وهو ما أدى لموت عشرات الآلاف من الشباب غرقاً بسبب تهالك المراكب التي تقلهم، إضافة إلى حرمان الدول الأفريقية من مواردها البشرية خاصة من الشباب والذى يمكن أن يمثل قوة مضافة لتحقيق التنمية في هذه الدول. كما ساهم تزايد الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا بسبب الفقر وأثار التغيرات المناخية، إلى أوروبا، في تأجيج الصراعات وتزايد النزعات العنصرية التي يمثلها اليمين المتطرف في أوروبا والذى يحارب المهاجرين ويتخذ سياسات عدائية ضدهم، وهو ما يساهم في تأجيج الصراع بين الثقافات والحضارات والأديان المختلفة وأنشأ بيئة من التوتر العالمي راح ضحيتها العديد من الأفراد.
ثالثها: تزايد معدلات الصراعات والحروب في العالم:
بسبب التغيرات المناخية، فلاشك أن تداعيات التغيرات المناخية من تصحر وجفاف وشح المياه، ساهم في تغذية بيئة الصراع داخل الدول وبين الدول ذاتها، فهناك صراع شديد على الموارد الطبيعية والأرض الزراعية والموارد المائية بين القبائل المختلفة في العديد من الدول الأفريقية، مما أدى إلى اندلاع الصراع والحروب بين هذه القبائل. كما أن حروب المياه تمثل أحد أبرز الحروب المستقبلية بسبب الصراع على المياه والأنهار، في ظل غياب الآليات السلمية لتسوية مشكلات الأنهار الدولية وهو ما ينذر بحروب إقليمية وحروب بين الدول بما يمثل تهديداً للسلم والأمن الإقليمي والدولي.
الجيوش والتغيرات المناخية:
تعد المؤسسات العسكرية والجيوش الوطنية ركيزة أساسية في مواجهة تداعيات التغيرات المناخية، وذلك بحكم أن المؤسسة العسكرية هي الأكثر انضباطاً وحرفية في التعامل مع أثار التغيرات المناخية، إضافة إلى امتلاكها الإمكانيات المادية والتكنولوجية التي تمكنها من التعامل مع تداعيات التغيرات المناخية، على خلاف المؤسسات المدنية الأخرى الأضعف والأقل دوراً في هذه القضية المهمة. وهناك علاقة تأثير متبادل بين المؤسسات العسكرية والجيوش وبين التغيرات المناخية وتبرز في أكثر من مسار:
أولا: مساهمة الجيوش في مواجهة أثار التغيرات المناخية: فقد ساهمت المؤسسة العسكرية في العديد من دول العالم في مواجهة الكوارث الطبيعية، خاصة الحرائق والفيضانات والأعاصير والزلازل والجفاف وغيرها، حيث نجحت القوات المسلحة بما تمتلكه من طائرات حديثة في إطفاء العديد من حرائق الغابات التي ضربت كثير من مناطق العالم خلال السنوات الماضية، كما حدث في فرنسا واليونان والجزائر والبرازيل. كما لعبت القوات المسلحة دوراً مهما في مواجهة أثار الفيضانات وإنقاذ العديد من السكان في المناطق المنكوبة من الأعاصير والفيضانات كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وباكستان ودول أوروبية عديدة. إضافة لدورها في إنقاذ ضحايا الزلزال كما حدث في تركيا. كما ساهمت القوات المسلحة الإماراتية في المساعدة في مواجهة أثار الفيضانات والقدرة على التحرك السريع لإنقاذ السكان من أماكن الفيضانات وأظهر احترافية عالية في التعامل مع الكوارث الطبيعية.
وخلال صيف عام 2022 تخلصت قوات الجيش البولندي من آلاف الأسماك على ضفاف نهر أودر، التي ماتت بسبب ارتفاع درجات حرارة المياه والتلوث. وفي المكسيك، حاولت الطائرات العسكرية تحفيز هطول الأمطار بعد أسابيع من الجفاف عن طريق زرع الغيوم باليود الفضي والأسيتون، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية. وفي سويسرا، نقل الجيش المياه جواً إلى الماشية العطشى في المراعي الجبلية الجافة. وفي أكثر من 10 دول أوروبية، نُشِرَت قوات الجيش لمكافحة الحرائق، بما في ذلك في البلدان المجاورة، بينما في دول مختلفة مثل الصين والهند وإيران وباكستان وأوغندا والإمارات والولايات المتحدة، أنقذت الجيوش المواطنين من فيضانات غير مسبوقة.
ثانيا: تأثر الجيوش بالتغيرات المناخية : فقد أدى ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق إلى التأثير سلباً على عمل الجيوش وأداء دورها، خاصة في مناطق العمليات ودفعت الكثير من الجيوش إلى إعادة بناء إستراتيجياتها بما يتفق وهدف مواجهة التغيرات المناخية وتطوير آلياتها ومعداتها العسكرية للتأقلم مع درجات الحرارة المرتفعة والرياح والأعاصير, بالإضافة إلى تطوير قدراتها على العمل والتحرك في مناطق الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والتصحر.
ثالثا: مساهمة الجيوش في الانبعاثات الكربونية: تعد عوادم المركبات العسكرية خاصة الطائرات المقاتلة والنفاثة وعوادم الدبابات وغيرها أحد مصادر التلوث والانبعاثات الكربونية وهو ما أدى لارتفاع درجة حرارة الأرض, وذكر تقرير لمجلة نيتشر العلمية في فبراير 2023 أن المؤسسات العسكرية، على مستوى العالم، تنتج كمّيات هائلة من غازات الدفيئة، إذ تتراوح التقديرات في هذه المساحة بين 1% و5% من إجمالي الانبعاثات العالمية، وهو ما يساوي قطاعَي الطيران والشحن.
وقد زاد هذا التأثير نتيجة لزيادة عدد الصراعات والحروب التي شهدها العالم سواء الحروب بين الدول أو داخل الدول والاستخدام المكثف للأسلحة من الطائرات والدبابات, كما حدث في الحرب الأمريكية ضد أفغانستان والعراق وكذلك الحرب على الإرهاب، وارتفاع منسوب التوتر العسكري في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان وتزايد معدلات المناورات العسكرية من قبل الدول الكبرى. وتسببت الحرب الروسية الأوكرانية الحالية في ارتفاع معدلات عوادم الطائرات والمركبات. كما أن غياب القانون الإنساني واستهداف المنشآت المدنية وسدود الأنهار من قبل الأطراف المتحاربة مثلما حدث مع سد كاخوفكا الأوكراني, وكذلك استهداف المنشآت المدنية في الحروب الأهلية ومن قبل التنظيمات الإرهابية، تسبب في زيادة الكوارث الطبيعية والفيضانات والحرائق وما ترتب عليها من ضحايا بشرية وتدمير الموارد الطبيعية وهو ما أثر سلبا على السلم والأمن الدوليين.
الجيوش الخضراء والأمن المناخي
لم يعد الأمن القومي للدول يقتصر فقط على مفهومه الضيق الخاص بالأمن العسكري وحماية حدود الدول ضد أية تهديدات عسكرية خارجية، بل توسع مفهوم الأمن القومي ليشمل أيضا الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن البيئي والأمن المناخي, القائم على مواجهة التغيرات المناخية باعتبارها تهدد السلم والأمن الدوليين. وقد بدأت كثير من الدول في التعامل مع التغيرات المناخية وإعادة هيكلة جيوشها وقواتها المسلحة للتعامل مع هذه الظاهرة سواء من حيث تعزيز دور وإمكانيات الجيوش في مواجهة أثار تلك التغيرات أو من حيث إسهامها في تقليل الانبعاثات الكربونية وهو ما يعرف بالتحول نحو الجيوش الخضراء.
ويُقصد بالجيوش الخضراء: تحول الجيوش نحو استخدام مصادر الطاقة الصديقة للبيئة والمتجددة، من خلال السعي إلى إحداث تغييرات إستراتيجية في بنية الجيوش والتوجه نحو بناء منظومات تُقلل من الاعتماد على الأسلحة التي تزيد من الانبعاثات الكربونية، بجانب الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة لتوفير الاحتياجات الطاقوية للجيوش، فضلاً عن التحول في استراتيجيات الجيوش والانتقال من عقيدة مواجهة التهديدات التقليدية، ووضع التهديدات غير التقليدية وظاهرة التغيرات المناخية على رأس أولوياتها.
وقد وضع القائمون على التخطيط الاستراتيجي في الجيش البريطاني عدداً من الأهداف التي تسعى المملكة المتحدة إلى تحقيقها على مستوى الجيش البريطاني بحلول عام 2050، وهى التحول نحو الجيش الأخضر. ومن أهم الأهداف التي وضعها مسئولو الوزارة في هذا الصدد: بناء سلاح جوى يكون خاليا تماماً من الانبعاثات الكربونية, بجانب الاعتماد على الوقود المتجدد لتلبية نصف احتياجاتهم من الطاقة، والبحث عن خطط تستهدف أن يتم الاعتماد على الطائرات والمركبات الجوية التي تدار عبر البطاريات لخفض الانبعاثات بنسبة 80% تقريباً خلال العقد ونصف العقد القادمين.
كما سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تبنى إجراءات تدفع باتجاه جعل الجيش الأمريكي من الجيوش الصديقة للبيئة، كجزء من الجهود الأمريكية للحد من التلوث بنسبة 50 إلى 52% على مدى العقد المقبل. وقد أشارت جريدة بوليتيكو لأول مرة في مارس 2021 إلى أن البنتاجون يأمل في أن تعتمد جميع المركبات التابعة للجيش الأمريكي على الطاقة الكهربائية بحلول عام 2030. وقد خصص بايدن في ميزانية الدفاع الأمريكية التي اعتمدتها إدارته مبلغاً مالياً كبيراً بقيمة 617 مليون دولار للتحول المناخي لوزارة الدفاع الأمريكية.
كوب 28
ولاشك أن تكيف الجيوش مع التغير المناخي أمر بات مصيرياً ومشروعاً ضخماً وطويل الأمد يؤثر بلا شك في السياسة الدفاعية للدول ومستقبل جيوشها، ويمثل مؤتمر الأمم المتحدة لمواجهة التغير المناخي، كوب 28، الذي سينعقد في دولة الإمارات العربية المتحدة محطة مهمة ونقطة فارقة فيما يتعلق بتعزيز الأمن العالمي والأمن المناخي وتعزيز دور المؤسسات العسكرية وزيادة مواردها وإمكانياتها للمساهمة في مواجهة التغيرات المناخية.
لا يوجد تعليقات