2022-07-01
الحرب الرّوسية في أوكرانيا وعودة القوّة الخشنة
مع مرور الوقت على العمليات العسكرية التي تباشرها روسيا داخل العمق الأوكراني، تتناسل الأسئلة تباعا، بصدد الدوافع الحقيقية والخلفيات التي تقف وراء السلوك الروسي، وكذا مستقبل هذه العمليات، وانعكاساتها الإقليمية والدولية، فالأمر يتعلق بحرب تطرح إشكالات كبيرة على عدة مستويات، ترهن الحاضر والمستقبل، وبخاصة وأن الأمر يتعلق بمواجهة تجري داخل المجال الإقليمي الأوربي الذي شهد حروبا عسكرية تاريخية طاحنة غيرت ملامح الخريطة السياسية العالمية في كثير من الأحيان.
بقلم: أ. د. أدريس لكريني
ورغم وجود طرفين عسكريين أساسيين في هذا النزاع المسلح، إلا أن هناك الكثير من المؤشرات التي تبرز بما لا شك فيه أن الأمر يتعلق بصراع استراتيجي كبير، تحاول من خلاله الكثير من القوى الإقليمية والدولية تحقيق مجموعة من المكتسبات في إطار إرساء موازين قوى تضمن مصالح هذه الأطراف.
وفي خضم هذه الإشكالات، سنحاول رصد مستقبل القوة الخشنة على ضوء تطور العمليات التي تباشرها روسيا في أوكرانيا وانعكاساتها الاستراتيجية الكبرى.
-1 التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وميزان القانون الدولي
كان استخدام القوة في العلاقات الدولية قبل إحداث هيئة الأمم المتحدة أمرا مألوفا، رغم الجهود التي بذلت في سبيل الحد منها، وقد مثل اندلاع الحرب العالمية الثانية بمثابة جرس إنذار للإنسانية جمعاء، بالنظر إلى الخسائر الفادحة التي خلفتها على مستوى الضحايا والبيئة والمعمار.. وبخاصة وقد شهدت استخدام السلاح النووي لأول مرة داخل الأراضي اليابانية. ولذلك حرصت الأمم المتحدة التي تأسست على أنقاض عصبة الأمم على إرساء مبادئ أساسية تدعم الاستفادة من التجارب القاسية الماضية، وتحول دون تكرار المآسي من جديد، حيث أكدت في ميثاقها على تحريم اللجوء إلى القوة أو مجرد التهديد باستخدامها، كما نصت فيه أيضا على منع التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، ودعت إلى تسوية المنازعات بشكل سلمي..
ظل استخدام القوة قائما في العلاقات الدولية، وإن بشكل أقل حدة عما كان عليه الوضع قبل إحداث الأمم المتحدة، وقد ساهمت ظروف الحرب الباردة في بروز منازعات مسلحة بالوكالة، وتصاعد في حدّة السباق نحو التسلح، فيما انتقل الصراع إلى داخل مجلس الأمن المعني بحفظ السلم والأمن الدوليين، ما ساهم في شلّه على امتداد عدة عقود.
ورغم انهيار جدار برلين وانتهاء الصراع الإديولوجي، لم يتوقف استخدام القوة في العلاقات الدولية، فقد تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان (عام 2001) وفي العراق (عام 2003)، كما فرضت حصارا على ليبيا على هامش قضية لوكربي، وآخر على السودان بذرائع مختلفة، وقد تأكد مع العمليات العسكرية التي تباشرها روسيا داخل العمق الأوكراني، أن العلاقات الدولية ما زالت تتأرجح بين قوة القانون؛ وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة الدول الضعيفة، وقانون القوة الذي تباشره القوى الدولية الكبرى بذرائع وتكييفات مختلفة، تستغل فيها غموض القانون الدولي وعدم مواكبته للتطورات المتسارعة التي تطبع الواقع الدولي.
2 - خلفيات التدخّل وسياقاته
حاولت روسيا منذ بداية تدخلها العسكري في أوكرانيا أن تبعث مجموعة من الإشارات، مفادها أنها دخلت المعركة مكرهة وتحت ضغط مجموعة من السلوكات المرتكبة جانب كييف، والتي اعتبرتها تمثل تهديدا لأمنها القومي، فالأمر من وجهة نظر موسكو، يتعلق بعملية عسكرية تفضي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الداعمة لتأمين حدودها ومصالحها الحيوية.
ومن هذا المنطلق، تحاول روسيا أن تبرز بمظهر المدافع عن نفسها، إزار التحركات التي باشرتها السلطات الأوكرانية على مستوى التقارب مع الغرب، والإسراع بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الذي استطاع أن يتمدد داخل أوروبا الشرقية بل وداخل وحتى داخل الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي سابقا.
ظلت روسيا تتابع تحركات الحلف الذي لم يختف على شاكلة غريمه حلف وارسو في بداية تسعينيات القرن الماضي، كما ظلت تراقب التوجهات الأوكرانية منذ الثورة البرتقالية لعام 2004 والمساعدات السخية التي تلقتها من الغرب، غير أن انشغالها بالإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي ورثتها بعد سقوط المعسكر الشرقي جعلتها تتلقى الكثير من الضربات والإهانات على امتداد أكثر من عقدين، ما جعلها تجاري السلوكات الغربية والأمريكية بصدد عدد من القضايا والأزمات الدولية الكبرى.
تشكل أوكرانيا بمثابة خلفية استراتيجية بالنسبة لروسيا من حيث الجوار والإمكانات والعلاقات التاريخية والحضارية، ومن ثمّ، فلا يمكن اعتبار تدخلها في أوكرانيا مصيدة غربية تستهدف استنزافها، بل تحركا مدروسا يجد أساسه في المبررات التي تسوقها بشأن حماية حدودها، غير أنه ومع استمرار هذه العمليات، يطرح السؤال حول حقيقة أهداف هذه العمليات، وما إذا كان الأمر يتعلق بعملية محدودة تحيل إلى ضمان الحياد الأوكراني، وتدمير البنى التحتية والعسكرية بالبلاد، أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى الرغبة في استرجاع أمجاد الاتحاد السوفييتي في محيطه السابق.
3- الانعكاسات الاستراتيجية للحرب
لا أحد كان يتوقع مع بداية العمليات العسكرية، أن الأمر سيحدث انعكاسات ضخمة في زمن العولمة والتطور التكنولوجي وتشابك المصالح والعلاقات الدولية.
ويشير الكثير من الخبراء إلى أن الحرب الجارية، هي مؤشر على بداية خلخلة ركائز النظام الدولي القائم، بإرساء موازين قوى جديدة، قد تلعب فيها الصين وروسيا أدوار طلائعية إلى جانب الولايات المتحدة التي تظل من أكبر المستفيدين مما يحدث، على اعتبار أن المعركة تجري بعيدا عن ترابها.
وأخذا بعين الاعتبار أن الحرب تدور داخل القارة الأوربية، فقد وجدت الكثير من الدول نفسها أمام وضع صعب يفرض التمترس خلف هذا الطرف أو ذاك، حيث بادرت بعض الدول كالسويد وفنلندا إلى طلب الانضمام لحلف الناتو، وهوما يحيل إلى إمكانية حدوث شرخ في النظام الأمني الأوربي، وبخاصة مع توجه بعض الدول كألمانيا إلى تخصيص إمكانيات ضخمة في مجال التسلح.
وعلى المستوى الاقتصادي، ارتفعت أسعار النفط والغاز، وعدد من المنتجات الفلاحية كالحبوب، وهو ما انعكس بشكل كبير على الأوضاع الاجتماعية بعدد من دول العالم، مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية، فيما بدأت التحذيرات تتعالى بشأن تهديدات حقيقية ستطال الأمن الغذائي العالمي مع مرور الوقت وعدم وضع حدّ للنزاع القائم.
وأمام النزوحات البشرية المكثفة التي وصلت إلى مستويات جد مقلقة خلال وقت وجيز تذكر بظروف الحرب العالمية الثانية، تزايدت المخاوف الأوربية في هذا الشأن، فيما حذر الكثير من الخبراء من أن استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا قد يجعل هذه الأخيرة ملاذا لعدد من الجماعات الإرهابية التي يمكن أن تستغل الأوضاع الأمنية المرتبكة، واتساع المساحة الجغرافية للبلاد، للاستقرار ولتجنيد عناصر من مختلف مناطق العالم، بما يشكل تهديدا لأمن أوروبا.
4 - عودة القوة الخشنة إلى الواجهة
بعد أكثر من عقدين من الترويج لأهمية القوة الناعمة بروافدها الاقتصادية والثقافية والإعلامية والإنسانية والدينية..، في تدبير النزاعات وتحقيق المصالح، أعادت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا البريق إلى القوة الخشنة بكل مكوناتها العسكرية والاقتصادية والسياسية.. فقد اختارت روسيا حسم المعركة بالقوة العسكرية، فيما اختارت الدول الغربية من جانبها أيضا توجيه دعم عسكري هام لأوكرانيا لمساعدتها على الصمود والحيلولة دون تحقيق روسيا لأهدافها في هذا الشأن، كما فرضت عقوبات «ذكية» على روسيا، تراوحت بين تدابير اقتصادية وتجارية، وتجميد للأموال في الخارج، وتخفيض للبعثات الدبلوماسية، كسبيل لدفعها إلى وقف العمليات العسكرية، وهي العقوبات التي لم تعط أكلها بشكل فعال بالنظر إلى نقاط القوة التي يملكها الطرف الروسي، بالنظر إلى تموقعه على الأرض داخل التراب الأوكراني، وامتلاكه للسلاح النووي، واستئثاره بمقعد دائم داخل مجلس الأمن وإمكانية توظيف حق الفيتو لمنع صدور أية قرارات تدينه في هذا الخصوص، بالإضافة إلى امتلاكه لسلاح الطاقة في مواجهة محيطه الأوروبي.
إن هذه العمليات تجسّد فرض الأمر الواقع، وبغض النظر عن خلفياتها ومراميها، فهي تعيد إلى المدرسة الواقعية المستندة إلى القوة والسلطة؛ في تفسير العلاقات الدولية وأحداثها؛ الوهج من جديد، مع عودة السباق نحو التسلّح وانتعاش سياسة الأحلاف وإعادة التموقعات، كما أنها تبرز هشاشة المراهنة على القوة الناعمة كآلية لتدبير الأزمات وتحقيق المصالح.
والواقع أن التساهل مع هذا الوضع المرتبط باستخدام القوة في تسوية المنازعات، سيمثل سابقة تنضاف إلى التدخلات التي مارستها دول أخرى قبل سنوات، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، قد تشجع دولا أخرى للإقبال على توظيف القوة كأسلوب في حسم الخلافات وتحقيق الأهداف، بما سيؤدى حتما إلى التطبيع مع هذه الممارسات، وتكريس فوضى دولية، قد تنعكس سلبا على مصداقية الأمم المتحدة، وقد تصل إلى حد انهيار القانون الدولي العام برمته، بما سيشجع دولا أخرى على نفس النهج.
وأمام ذلك، أصبح العالم بحاجة ماسة إلى مراجعة الآليات الدولية التقليدية المعتمدة في مجال إدارة الأزمات والنزاعات، وإلى تطوير قواعد القانون الدولي، بما يستجيب للتطورات الكبرى التي طالت مفهوم السلم والأمن الدوليين، ثم إصلاح الأمم المتحدة وديمقرطة عملها.
لا يوجد تعليقات