مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-11-30

الخدمـــة الوطنــية: نماذج وآفاق: حالة فنلندا

تعتمد فنلندا على الخدمة العسكرية الاحتياطية. ويكاد ما نسبته % 98 من جميع الضباط وضباط الصف والجنود الذين يمثلون أقصى قوة في زمن الحرب يأتون من الخدمة الاحتياطية.
وليس من المبالغة تأكيد أهمية الطريقة التي تم بها إنشاء هذه القوات الاحتياطية. فالخدمة العسكرية الوطنية يجب أن تكون ناجحة، وأن تلقى دعماً قوياً من القيادة الوطنية ومن أفراد الشعب جميعاً.
 
إعداد:الفريق (المتقاعد) ماركو جوهاني كولي
 
الخدمــة العسكريـــة الوطنـــية هي مهمــة الأمــــة قاطبــــة
يتمثل الغرض الرئيسي من الخدمة العسكرية الوطنية في فنلندا في تحويل المدنيين إلى جنود. والواقع أن كثيراً من الناس يعتبرون آثار حصيلة التجنيد العام في المجتمع بأهمية نتائج إيجاد قدرات عسكرية ذات مصداقية.
 
من بين جميع أنشطة ما قبل الخدمة العسكرية للفرد، يعتبر الوجود العسكري العامل الأهم وراء تنمية الإرادة الوطنية. ويتحقق هذا الوجود في المنازل من خلال إعداد جميع المواد الإعلامية بطريقة تفضي إلى مناقشات في البيوت. وتدعو الحاجة إلى مناقشة إرث التجنيد ضمن نطاق الأسر. فإذا التزمت الأسر، أو عندما تلتزم، بدعم الخدمة الوطنية لأبنائهم أو بناتهم، فسوف يؤدون الخدمة على نحو أفضل بدافع أعلى.
 
ولكي يظهر جميع المجندين التزامهم تجاه الوطن وقضاياه، فإنهم يقسمون يمين الولاء للوطن بعد انتهاء فترة التدريب الأساسي بنجاح. ويتم ترشيحهم من كونهم أغراراً ليصبحوا جنوداً، ويقام هذا الحفل أمام عائلاتهم وأصدقائهم وعامة الجمهور. ويسهم الحفل في تقوية أواصر الجنود بالمجتمع في أعمق المعاني الممكنة. ويتعهدون بأن يهبوا أرواحهم فداء لوطنهم، إذا لزم الأمر.
 
يمكن أن تظل الخدمة العسكرية الوطنية يتحقق لها النجاح، إذا تحقق معناها المقصود منها على مدى أجيال. فالزمن يتغير، وكذلك تفعل الأولويات الفردية. لكن يبقى الأمن والسلامة الهدف الأساسي النهائي للحكومة. ويتأكد ذلك من خلال تنظيم استعراضات عسكرية أمام الشعب، في قلب من المدن. كما يتم تشجيع الأسر على المشاركة في المسيرات الوطنية والإقليمية والمحلية، وفي أيام الأسرة للوحدات العسكرية.
 
وتسهم هذه الفعاليات جميعاً في تعزيز الالتزام لدى الأجيال المختلفة. ولا يقتصر الغرض من هذه الأنشطة على إظهار القوة العسكرية فحسب، بل يتعداه إلى اجتماع الجنود، والمجندين من جميع أنحاء البلاد، معاً لخدمة الوطن. ومن المهم جداً أن يتم تعميم المسيرات الرئيسية على جميع أنحاء البلاد.
 
في كل الفعاليات المذكورة، يتم اعتبار قدامى المحاربين في الحروب ضيوفاً فخريين دائماً. وسوف يظهرون بمجرد حضورهم ما تعنيه حقاً قيم مثل التضحية. وهم يشاركون الأجيال القادمة في تجاربهم ودروسهم الفريدة التي تعلموها.
 
وتتعزز الإرادة الوطنية أيضا من خلال ممارسة الأنشطة التطوعية، حيث تسهم المنظمات غير الحكومية المختلفة، ممثلة بأعلامها وراياتها، في صيانة تقاليد المناطق المختلفة، والخدمات في زمن الحرب، والفروع والوحدات، وتوفير الأمن والسلامة والتدريب على حالات الطوارئ بشكل تطوعي. وهذا يضيف قيمة إلى الجهود الشاملة للاستفادة من الموارد المحدودة لعدد صغير من السكان.
 
تنفيذ الخدمة العسكرية
يستند الدفاع العسكري في فنلندا إلى الردع والوقاية من الحرب. والسمة الرئيسية في الردع هي المصداقية. ويعتمد هذا على التقييمات الخارجية والداخلية على حد سواء. فالنسبة إلى الإرادة الوطنية، يعتبر التقييم الداخلي في غاية الأهمية. وبما أن التجنيد يؤثر في جميع الأسر تقريباً في فنلندا، فلا مبالغة إن ركزنا على أهمية تجربة المجند في أثناء الخدمة العسكرية.
 
يعتبر التدريب نفسه هو الجانب الحافز الأهم أثناء الخدمة العسكرية. فإذا واجه الشباب والشابات تحدياً وتم دعمهم بتدريب جيد التخطيط والتنفيذ، فيمكن إعطاؤهم تدريباً عالياً جداً، حتى في فترة قصيرة من الزمن.
 
تستغرق الخدمة العسكرية الوطنية في فنلندا بين 6 أشهر و12 شهراً، وفي غضون تلك الأطر الزمنية، يتم تدريب المجندين على جميع الخدمات والفروع في البر والبحر والجو، مع عدم إغفال البعد الرابع (الدفاع السيبراني) على حد سواء.
 
وبالفعل فإنه خلال الأسابيع الأولى من التجنيد يتم تكليف أصحاب الخبرات من قدامى المحاربين والجنود بالحديث عن تجاربهم في القتال والتدريب. ويتم دوماً التشديد على تلاحم الوحدة وانضباطها.
 
كما يتم إعطاء دروس أخرى عن أهمية ومبادئ الدفاع الوطني، والتاريخ العسكري والإنجازات، وطبيعة القتال وسلوك الجندي فيه. ويتم أيضاً إعطاء العديد من الأمثلة على أهمية الفضائل العسكرية ومناقشتها، والتركيز بصورة خاصة على الأمثلة العملية، ولاسيما الإيثار والتضحية والالتزام.
 
يتم اختيار أفراد متطوعين ولائقين جسدياً من بين المجندين وفرزهم إلى الوحدات المكلفة بأصعب المهام كذلك. وما الغواصون القتاليون، والقوات الخاصة، والمقاتلون في المناطق العمرانية، وسعاة البريد المتنقلون، والخبراء الكيميائيون، سوى مجموعة من الخيارات المتاحة. ويمكن الاستفادة من جميع هذه المهارات فيما بعد في مهن مستقبلية للمجندين؛ لأن دوافعهم للتعلم والمساهمة هي دائماً أعلى من المستويات العادية.
 
وهناك جانب مهم جداً في الخدمة العسكرية في فنلندا، وهو التدريب على القيادة؛ حيث يتم اختيار ما يقرب من %30 من جميع المجندين للتدريب كضباط صف، ومن ثم يتم اختيارالأفضل بينهم للتدريب كضباط.
 
من الضروري أن يثق المجندون في زعمائهم. وتأتي الثقة بالقادة ببساطة من خلال مهاراتهم العسكرية، إلى جانب سلوكهم القيادي «المنسجم مع القواعد». ويتم تدريس الفضائل المرغوبة للجندي والقائد في الصفوف الدراسية بعد بضعة أسابيع. ومن المهم جداً ألا ينظر إلى القادة على أنهم «آلات لإعطاء الأوامر» فحسب، بل على أنهم أيضاً بشر قادرون على توجيه الجنود الأصغر سناً في المواقف الصعبة.
 
وبالنظر إلى التدريب على القيادة، يتولى قادة الخدمة الاحتياطية جميع المراكز القيادية في المجموعة، والفريق، والسرب، والفصيلة. وفي وقت لاحق، يتم ترشيح معظم قادة السرايا أيضاً من الخدمة الاحتياطية.
 
ومن الأمور البالغة الأهمية أن يتم اختيار المجندين للخدمة بالطريقة التي يتم فيها تدعيم قدراتهم وطموحهم. وبذلك، تبقى فوائد التجنيد طويلاً في حياتهم المستقبلية. فالتجربة الجيدة في الخدمة العسكرية تخلق الثقة، وتسهم الثقة في تعزيز الفخر والولاء على حد سواء.
 
ويتعزز الفخر والاعتزاز من خلال التركيز على أهمية فرع الخدمة (مثل مدفعية الميدان أو المشاة) أو الوحدة (مثل اللواء المدرع) التي يؤدي فيها كل فرد خدمته. ويتم التركيز على الصفات المميزة للوحدة وإنجازاتها منذ البداية. ولتطبيق هذا، يكون لكل وحدة صفات مميزة معينة، تكون مصدر فخر واعتزاز لها، وتتميز بها على الوحدات الأخرى.
 
الفوائد التي تعود على المجتمع من خلال الخدمة الوطنية والاحتياطية
تأتي إحدى الفوائد الكبرى للمجتمع من تعلم مهارات الطوارئ. ففهم المهارات الإسعافية الأساسية في طب الطوارئ، مثل: الإنعاش بالماء، وإجراءات الانتعاش، وحماية العمود الفقري،ووضع ضمادة الضغط، وتضميد الجروح، يمكن أن يسهم في إنقاذ الأرواح في الحوادث. ويحظى جميع المجندين في فنلندا على التدريب الأساسي على مهارات الطوارئ.
 
ويتم إيصال مهارات الطوارئ إلى مستوى أعلى بالتعاون مع السلطات الأخرى. كما يشارك المجندون أيضاً في أثناء الخدمة، وكذلك الاحتياطيون بعد خدمتهم في حالات الطوارئ إذا كانت هناك حاجة إلى دعم إضافي. وغالباً ما يتم استخدام المجندين لمساندة الشرطة في مراقبة حركة المرور أو حتى في توفير مياه الشرب النقية للناس في حال وجود أي انقطاع في الخدمات.
 
إن هذه الأنشطة جميعها تساعد على إبقاء قوات الدفاع والمجندين في جوار المواطنين، الأمر الذي يضيف المزيد من القيمة إلى الثقة في الجيش. إن قوات الدفاع في فنلندا هي ثاني أكثرالمؤسسات نيلاً للثقة بعد الشرطة. وهذا أمر فريد من نوعه تماماً، وخصوصاً في أوروبا.
 
إن أنشطة المساندة هذه جميعاً، القائمة على القيم الرائعة السالفة الذكر، تسهم في المحافظة على المستوى العالي للخدمة العسكرية. حيث ينهي ما يقرب من %80 من جميع المواطنين الذكور الخدمة العسكرية الوطنية، ويمكن وضعهم في الخدمة الاحتياطية.
 
وهذه هي الحال على الرغم من أن كل فرد لديه الحق في اختيار الخدمة المدنية البديلة في أي مرحلة من الخدمة أو حتى في الاحتياط. ويرى العديد من الأسر في الخدمة المدنية وسيلة مخلة بالمروءة لأداء الواجب الوطني. والأمر قطعاً ليس كذلك، ولكن - بسبب تراث الخدمة العسكرية - ما زالت هذهالعقلية قوية جداً.
 
يعفى حوالي من الرجال من الخدمة العسكرية. وترجع الغالبية العظمى من تلك الحالات إلى أسباب تتعلق بالصحة واللياقة البدنية. فقوات الدفاع تقوم بأنواع كثيرة من الترتيبات الخاصة لضم أكبر عدد ممكن من الأفراد، ولكن الأمر هو أنه ليس كل فرد يستطيع أداء هذه الخدمة، وهذا أمر مفهوم جيداً في المجتمع.
 
وبعد الخدمة العسكرية، يتم وضع الرجال والنساء المدربين في الخدمة الاحتياطية، ويتم دعوتهم إلى تجديد التدريب عادة في دورات كل 2-4 سنوات. وتبقى المحافظة على الوحدات، من فرق وفصائل وسرايا، كما كانت في أثناء تدريبهم في مرحلة التجنيد. وتدل التجارب الفنلندية على أن مواجهة المصاعب وإدارتها، إلى جانب النتائج المعقولة، يبدو أنها تخلق روابط قوية للغاية بين الأفراد في هذا السن بالذات.
 
إن هذه الطريقة تضمن الوحدة والتماسك بين الجنود، والحفاظ على مستوى عالٍ من التحفيز وكذلك الصحبة. تلك هي سمات أساسية مهمة في خوض المعارك، ويسهم السلوك الموازي لها في إضافة قيمة إلى المجتمع كذلك. بالنظر إلى نوعية التدريب العالية، والجوانب التحفيزية القوية، والجمع بين المواطنين الذكور جميعاً معاً من أجل تدريبهم العسكري، يمكن استخدام أفراد الخدمة الاحتياطية على نطاق واسع حتى في العمليات الشاقة خارج البلاد.
 
والواقع أن نسبة %75 من الضباط وصف الضباط والجنود الفنلنديين، المشاركين في عمليات إدارة الأزمات، هم من المتطوعين من قوات الاحتياط.
 
وبالنسبة إلى العمليات، فإنهم يتم تجنيدهم، ويعودون إلى واجباتهم المدنية بعد انتهاء جولتهم. وبناء على الخلفية التي تم إيضاحها، فقد كان الاحتياطيون ناجحين للغاية دوماً في العمليات، وخاصة عند تقديم المساعدة الإنسانية والخدمات الأخرى لبناء المجتمع.
 
القدوة هي المهمة
تعتبر القدوة في غاية الأهمية. فكثير من الشباب يعجبون بمثلهم الأعلى، وعندما يرونهم يقضون وقتهم الثمين في خدمة الوطن، فإن ذلك يكون حافزاً لهم للمضي قدماً أيضا. في فنلندا، وقد أمضى معظم اللاعبين العالميين خدمتهم العسكرية حتى في خضم أفضل سنوات حياتهم المهنية. وفي معظم الحالات، تكون إنجازاتهم في الخدمة أفضل بكثير من المعدلات الطبيعية، ويوضح ذلك للمجتمع إجمالاً قيمهم وأولوياتهم.
 
وكذلك يضرب قادة الأعمال المثل للأمة. ومنهم - على سبيل المثال لا الحصر - رئيس نوكيا وأحد أبرز خبراء أمن الفضاء الإلكتروني في العالم... هم أيضاً ضباط في الاحتياط. وهم يشاركون في تدريباتهم التنشيطية من خلال المساهمة بخبراتهم العميقة لقوات الدفاع. كما أنهم يتطوعون أيضاً لقيادة جهود التنمية، مثل: تطوير قدرات الفضاء الإلكتروني الوطنية، أو حتى لتقييم نظام التجنيد الوطنية. إنهم يدعمون علناً الخدمة الوطنية، ويؤكدون أهمية التدريب على القيادة - الذي تقدمه قوات الدفاع - في الحياة التجارية.
 
خاتمة: «الأولاد يصبحون رجالاً»
ما هو مهم حقاً هو أن هذا الارتفاع يستمر بعد الخدمة. وهذا الارتفاع في الإرادة الوطنية يجلب قيمة مضافة للخدمة العسكرية يستخدمها المجتمع كله ويستفيد منها. إن النظام الذي تم إنشاؤه لزيادة القدرات العسكرية يزيد في قدرات البلاد. وأفضل إدراك لهذا هو القول إنه خلال خدمة التجنيد، يصبح الأولاد رجالاً. وهذا لا يشارك فيه الآباء والأمهات والأشقاء على نطاق واسع فحسب، بل الأزواج والأصدقاء أيضاً.
 
والأمر المهم بالنسبة إلى المجتمع هو أن أرباب العمل يشتركون في الرؤية نفسها لا يمثّل الالتزام بالخدمة تغييراً مفاجئاً كبيراً، بل ينمو على مراحل ومع التقدم في السن. وعادة، يتبنى الشباب سلوكاً مسؤولاً للغاية في سن 25-30 عاماً. وتشير التجارب الفنلندية إلى أن الخدمة العسكرية هي النشاط الحكومي الوحيد الذي يسرّع هذا التطور ويسهم بشكل كبير في وحدة الوطن واستقراره وأمنه ووعيه.
 
وختاماً، لقد جمعت فوائد الخدمة العسكرية الوطنية، ولدينا شواهد عليها في فنلندا. وهي صادرة جميعاً من أفراد، ولكنها تنتشر إلى المجتمع كله بسبب العدد الكبير لأولئك الذين يمرون بفترة تدريب تجنيد كاملة. فالوعي الذاتي والعمل الجماعي ومهارات القيادة، والتماسك الاجتماعي في جميع أنحاء البلاد، والاحترام للسلطات وإنجازات الأجيال السابقة، واللياقة البدنية وأسلوب الحياة الصحي، والمثابرة على حسين القدرة على التحمل ومهارات الطوارئ الإسعافية، كلها مهمة للغاية للتنمية المستمرة للمجتمع.
 
وبالإضافة إلى هذا كله، فإن خدمة التجنيد تبني الثقة في السلطات الأمنية، حيث يدرك الشباب أنهم أجزاء مهمة في تركيبة الأمن القومي، وإن كانوا يثقون بأنفسهم وأقرانهم ورؤسائهم، فبإمكانهم أن يثقوا بالكيان بكامله.سوف تسهم الثقة في تعزيز أهم القيم والمحافظة على أمن الوطن واستقراره ونجاحه، وكذلك لأجل أجيال المستقبل، وهذا هو الإرث الرئيسي للخدمة الوطنية.


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره