2023-03-01
الصراع المسلح في الفضاء الخارجي بين التطبيقات والسياسات والمستقبلي
كشفت الحرب الروسية ـ الأوكرانية عن دور الأقمار الصناعية في الصراع المسلح، حيث تم توجيه اتهامات متبادلة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بالمسؤولية عن اختراق الأقمار الصناعية، ووصل الأمر إلى اعتبار روسيا ذلك بمثابة «سبب آخر لخوض الحرب».
بقلم : د. عادل عبد الصادق
ويكشف ذلك عن توظيف عسكري غير مسبوق للفضاء الخارجي، حيث أصبحت «القوة الفضائية» من مرتكزات الهيمنة الجديدة، وفي ظل التطور بين القوى الدولية في إنتاج أسلحة فضائية سرية وعلنية، والسيطرة على الموارد والكواكب في الفضاء، وإقامة قواعد عسكرية به، دخل الفضاء في الفكر الاستراتيجي العالمي، سواء على مستوى التطبيقات أو السياسات، وهو ما سيكون له تأثير في مستقبل الأمن الفضائي كرافد من الأمن الجماعي الدولي، وبخاصة في ظل حالة الاندماج الوظيفي «المتصاعد» بين الفضاء الخارجي والمجالات الدولية الأخرى.
ويطرح ذلك العديد من التساؤلات حول ماهية المتغيرات الجديدة نحو عسكرة الفضاء الخارجي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وما الأنماط الجديدة للصراع المسلح وغير المسلح من أجل السيطرة والهيمنة إلى جانب الثروة والموارد الفضائية؟ وما خصائص الأسلحة الفضائية وتأثيرها في الأمن الفضائي؟ وما طبيعة التحديات التي يفرضها تنامي الصراع المسلح في الفضاء الخارجي؟ وما فرص احتواء العسكرة؟ وما دور القانون الدولي؟ وكيف يتم التوصل إلى اتفاقية دولية لحظر الأسلحة في الفضاء؟ وما فرص دعم الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي وتعزيز الأمن الجماعي الدولي؟
خصائص وأنماط عمل الأسلحة الفضائية في المجالات الدولية
1. خصائص الأسلحة الفضائية والتغير في المدلول
إن تطوير ما يطلق عليه «الأسلحة الفضائية» جاء تحت تأثير دور المتغير التكنولوجي في الشؤون العسكرية، ورقمنة الأقمار الصناعية، والتطور في الإطلاق والتشغيل، وانتقال بعض منها من الأبحاث العسكرية السرية إلى التجريب ثم الاستخدام الفعلي، وهو الأمر الذي دفع وتيرة التسابق بين القوى الكبرى، ولا تعتمد تلك الأسلحة بالضرورة على قوة النيران بل تعتمد على القدرات في مجال التشويش والتعمية والسيطرة والتحكم والاختراق. ومن ثمّ، قد لا تتضمن القدرات التدميرية بالضرورة «تفجير الأقمار الصناعية»، بل يتم الاعتماد على الوسائل الأقل عدوانية، مثل الهجمات السيبرانية التي تعترض تدفق البيانات بين الأقمار الصناعية والمحطات الأرضية.
هذا وقد أخذ «السلاح الفضائي» طبيعة متحركة تكتسب قوتها بالاصطدام بالهدف وتدميره، أو بتوظيف أشعة الليزر أو الموجات الكهرومغناطيسية، أو بتدمير الألواح الشمسية للأقمار الصناعية المعادية، أو بتوظيف الظواهر الطبيعية كالرعد والعواصف والأعاصير والزلازل كأسلحة غير تقليدية إلى جانب أخرى اصطناعية مثل «غاز الكيمتريل».
وتطور «الجيل الجديد» من سباق التسلح في الفضاء مع تطوير ونشر واستخدام الأسلحة الدفاعية والهجومية التي تستهدف البنية التحتية الفضائية لدول أخرى، ومواجهة خطر الأسلحة الباليستية، أو للمساعدة في عمل حربي على الأرض، أو ضمان حرية الملاحة الفضائية، إلى جانب التوظيف في العمل الاستخباراتي والحروب النفسية والإعلامية بين القوى الدولية.
ويمكن تعطيل وتدمير الأقمار الصناعية دون تفجيرها باستخدام الصواريخ، ويمكن لمركبة فضائية أن تقترب وترش الطلاء على أجهزة الأقمار الصناعية البصرية، وتدمير هوائيات الاتصال الخاصة بها، ويمكن استخدام الليزر كسلاح لتعطيل الأقمار الصناعية أو إتلاف أجهزة الاستشعار الحساسة، وتوظيف موجات الراديو أو موجات الميكروويف للتشويش أو الاستيلاء على موجات الإرسال والاستقبال من محطات التحكم الأرضية.
وهناك سلاح مباشر مضاد للأقمار الصناعية ASAT، يكون في شكل قطعة من المعدن بها نظام توجيه خاص، ومثبتة على قمة صاروخ باليستي، وتنفصل عنه بعد مغادرة الغلاف الجوي للأرض، ثم تقوم بتصحيح مسارها للاقتراب من الهدف وحدوث الاصطدام عند السرعات المدارية، وهو الأمر الذي يتسبب في إنتاج طاقة هائلة تؤدي إلى الانفجار.
وتشكل الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، والتي تحطم أهدافها خطرًا على الفضاء من خلال تكوين سحابة من الشظايا، التي يمكن أن تصطدم بأجسام أخرى، والتي بدورها يمكن أن تطلق سلسلة من ردود الفعل من المقذوفات عبر مدار الأرض.
2. اتجاهات أنماط نظم التسلح الفضائي بين القوى الدولية
تتفاوت الأسلحة المضادة في الفضاء من حيث أنواع الآثار التي تحدثها، ومستوى التطور التكنولوجي المطلوب، ومستوى الموارد اللازمة لتطويرها ونشرها، مثل امتلاك نظم عسكرية أو قواعد في الفضاء أو أقمار صناعية تستخدم كأسلحة. هذا وقد ظهرت وفقًا لاعتبارات مكان وجود الهدف أو مكان وجود السلاح أنماط جديدة، تشمل:
نظام تسلح «أرض - فضاء»: يتميز بالحركية في شكل استخدام صواريخ أو أجسام أخرى تم إطلاقها من الأرض بغية إسقاط أهداف فضائية، وآخر غير حركي يعتمد على أنظمة مثل أجهزة تشويش وأجهزة كمبيوتر يتم نشرها على الأرض يكون بمقدورها التأثير على الأهداف الفضائية تضمن التدخل في عمل الأقمار الصناعية.
والنمط الثاني من التسلح هو نظام «فضاء - فضاء»: حركي يرتكز على تطوير قدرة أقمار صناعية في اعتراض وتدمير أقمار صناعية أخرى، ويمكن أن تحمل تلك الصواريخ رؤوسًا نووية أو غير نووية، ونوع آخر غير حركي مع عدم وجود أقمار صناعية وغيرها من الوسائل التي تستخدم الموجات المايكروية والموجات الأخرى لتعطيل عمل أقمار صناعية أخرى.
والنمط الثالث هو سلاح « فضاء - أرض»: يتميز بأنه نظام حركي يستهدف تدمير منشآت أرضية من الفضاء، ولا يزال يخضع للبحوث العسكري، ونظام آخر غير حركي يعتمد على وسائل الدرع الصاروخية الفضائية.
وهناك نمط رابع يرتبط بتطوير القدرات في مجال إدارة الصراع والحرب بتبني نظم تسليح متقدمة يمكن لها أن تقود عمليات حربية أو عدائية في نطاق «أرض- أرض» (عبر الفضاء).
صعود اقتصاد الفضاء كمحرك جديد للتنافس الدولي
تأتي المصالح الاقتصادية في الفضاء إلى جانب الأهداف الأمنية والعسكرية، وقد برز اقتصاد الفضاء باعتباره يلعب دورًا مهمًّا في النمو الاقتصادي للعديد من الدول التي توفر منصات الإطلاق أو تصدير التقنيات اللازمة للدول الأخرى، وبات ما يعرف بـ»اقتصاد الفضاء» مدخلًا استراتيجيًّا للاستحواذ على القوة الفضائية، وتعرفه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأنه «أي نشاط يتضمن استكشاف وفهم وإدارة واستخدام الفضاء»، ويعني اقتصاد الفضاء كذلك باستخدام الموارد الفضائية وفهمها وإدارتها وتوظيفها في شكل منتجات وخدمات ذات صلة بالمعرفة والبحث والتطوير، والتطبيقات التي توفرها البنية التحتية الفضائية».
ويشمل «اقتصاد الفضاء» نمطين؛ الأول، يرتبط بـ»اقتصاد الفضاء مقابل الأرض»، أي السلع أو الخدمات المنتَجة في الفضاء للاستخدام على الأرض، ويشمل ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية والبنية التحتية للإنترنت وقدرات مراقبة الأرض، والأقمار الصناعية. أما النمط الثاني، فيرتبط بـ»اقتصاد الفضاء مقابل الفضاء»، أي السلع والخدمات المنتَجة في الفضاء لاستخدامها في الفضاء، مثل تعدين القمر والكويكبات لاستخراج مواد يمكن استخدامها للبناء في الفضاء.
وقد شهدت السنوات الأخيرة ازدهار وتنامي فرص وإمكانات الاستثمارات في صناعة الفضاء من قِبل الحكومات أو الشركات متعدية الجنسيات؛ ففي النصف الأول من عام 2022 تم إطلاق نحو 72 صاروخًا فضائيًّا و1022 مركبة فضائية، وقد دعمت الشركات التجارية نحو 90% من عمليات الإطلاق، والتي بلغت نحو 958 مركبة فضائية، وتجاوز تمويل القطاع الخاص للشركات العاملة في قطاع الفضاء عشرة مليارات دولار في عام 2021، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق، كما أنه زاد بمقدار عشرة أضعاف على مدار العقد الماضي، ويوجد أكثر من عشرة آلاف شركة حول العالم ونحو خمسة آلاف من كبار المستثمرين يشاركون في صناعة الفضاء، بقيمة إجمالية وصلت إلى 469 مليار دولار في عام 2021، بارتفاع نسبته 9% مقارنة بعام 2020، مثل الأقمار الصناعية للإنترنت«Starlink» التي أطلقتها شركة «SpaceX» والتي يملكها الملياردير الأمريكي «إيلون ماسك».
كما تجدر الإشارة إلى زيادة الاستثمارات المدعومة من الدول في مشروعات الفضاء حول العالم؛ ففي 2021 كان هناك ارتفاع 19% في الإنفاق الحكومي الإجمالي على برامج الفضاء العسكرية والمدنية على مستوى العالم، وهو أسرع معدل نمو منذ 2014. ورفعت الهند، على سبيل المثال، إجمالي إنفاقها على الفضاء إلى 36%، والصين بنحو 23%، بينما ضخت الولايات المتحدة الأمريكية استثمارات بزيادة قدرها 18%، وبما يعادل 12% من الإنفاق العالمي على الفضاء.
ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد الفضاء بما يتجاوز 640 مليار دولار بحلول عام 2026، وبحلول 2030 يُتوقّع أن ينمو اقتصاد الفضاء العالمي بنسبة 75%، ليصل إلى 642 مليار دولار أمريكي، ثم إلى تريليون دولار بحلول 2040. كما أنه من المرجح أن تصل قيمة سوق السفر والسياحة الفضائية إلى 23 مليار دولار بحلول 2030.
تصاعد الإنفاق والاهتمام العالمي بعسكرة الفضاء
طالبت إدارة «بايدن»، في 28 مارس 2022، تخصيص ميزانية لوزارة الدفاع تقدر بـ773 مليار دولار عام 2023، منها 24.5 مليار دولار لقوة الفضاء الأمريكية، وهو ما يزيد بمقدار 5 مليارات دولار على ما تم اعتماده من قِبل الكونجرس عام 2022، حيث تم تخصيص 1.5 مليار دولار لوكالة تطوير الفضاء إلى جانب 18.05 مليار دولار للقوة الفضائية، والتي تم تدشينها في 20 ديسمبر 2019، وهي القوة المسؤولة عن تنظيم وتدريب وتجهيز القوات للقيام بعمليات فضائية عالمية، وكفرع جديد للقوات المسلحة منذ تأسيس القوات الجوية عام 1947. ويعكس ذلك اتجاه البيت الأبيض لاعتبار الفضاء أمرًا حيويًّا للأمن القومي، كونه جزءًا من أدوات الحرب الحديثة، وفي ظل محاولة الحفاظ على الهيمنة الفضائية، وتحسين القدرة على مواجهة التحديات المتصاعد في الفضاء، وردع الأعداء، والمرونة أثناء العمليات العدائية.
وتركز الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة النزاعات المستقبلية في الفضاء على كيفية تطوير القدرات الدفاعية والاستثمارات في مجال تطوير أجهزة الاستشعار، وتحقيق التكامل بين الجهد الحكومي والتجاري وبين الحلفاء، وفي هذا الصدد، قام الجيش الأمريكي بتصميم هياكل فضائية منتشرة في مدارات متنوعة، وذلك للحد من مهاجمة الأنظمة الفضائية الأخرى، كما يتم تطوير توظيف الذكاء الاصطناعي في الاستيلاء على الأجسام المضادة في الفضاء، ولا ينفصل هذا الجهد عن تحفيز المشغلين التجاريين -وبخاصة من جانب الشركات الأمريكية- لتطوير دفاعات متقدمة لأنظمتها الفضائية بشكل يجعلها أكثر مقاومة للتشويش أو الهجمات السيبرانية.
ويشكل الصعود الفضائي من قِبل كل من الصين وروسيا تحديًا للتفوق الأمريكي التقليدي، وذلك عبر تبني البرامج الفضائية العسكرية إلى جانب البرامج الأخرى ذات الأبعاد المدنية، ويشمل ذلك تهديدًا لاستقرار عمل البنية التحتية الفضائية من وجهة النظر الأمريكية، وهو ما يدفعها للاستثمار في بناء أنظمة فضائية متقدمة، وحماية البنية الفضائية عن طريق الأقمار الصناعية الخاصة بالإنذار المبكر التي تستخدم أجهزة استشعار تعمل بالأشعة تحت الحمراء؛ للكشف عن القذائف الباليستية والصوتية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
ويأتي التخوف الأمريكي من خسارة سباق الفضاء مع الصين في ظل تطوير الأخيرة لقدراتها الفضائية بوتيرة متسارعة، وذلك بالرغم من تقدم الولايات المتحدة، فمن بين أكثر من 4500 قمر صناعي، تمتلك أمريكا أكثر من النصف بمقدار 2700 قمر صناعي، أي ما يقرب من سبعة أضعاف ما تمتلكه الصين، لكن بكين حققت رقمًا قياسيًّا في عمليات الإطلاق الفضائية خلال العامين الماضيين. ودفعت تلك التطورات إلى تنبي استراتيجية الأمن القومي الأمريكي مبدأ الصين كمنافس استراتيجي رئيس وروسيا كتهديد خطير لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الفضاء.
ومن أهم مؤشرات السباق نمو مجال الاستكشاف الدولي للفضاء ورغبة الصين في الوصول للمريخ بحلول عام 2020، وأن تصبح «قوة فضائية كبرى» بحلول عام 2030، إلى جانب دول أخرى، مثل: روسيا وإسرائيل والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل، كما ظهرت قوى صاعدة، مثل: المكسيك وجنوب إفريقيا وإيران وسنغافورة ونيجيريا والأرجنتين. ويشهد الفضاء الآسيوي حالة غير مسبوقة من التنافس انعكاسًا لحالة التوتر حول الحدود والمصالح بين القوى الإقليمية، مثل الهند وباكستان، أو بين إيران والغرب، أو بين إسرائيل والعرب.
اتجاهات تنامي العسكرة بين الأسلحة والهيمنة
فرض امتلاك دول لأسلحة فضائية زيادة فرص تعرض أي دولة تمتلك «بنية فضائية» لخطر الهجوم، أو أن تصبح هدفًا في حال اندلاع نزاع مسلح على الأرض، واحتمال تجاوز تأثير ذلك طرفي أو أطراف الصراع المفترضين ليصيب أنظمة البنية الفضائية المدنية الكونية كافة، وهو ما قد يكون له تداعيات مختلفة على المجتمع الدولي.
كذلك فإن دخول دول جديدة النادي الفضائي الدولي فضلًا عن الزيادة في عدد الفاعلين أو الأنشطة الفضائية سيعمل من جهة على صعوبة السيطرة على السلوك الدولي، ومن جهة أخرى على زيادة احتمالية التعرض للمخاطر؛ إما المرتبطة بالصراعات الدولية أو تلك الناتجة عن عدم التوصل إلى اتفاقية للحد من التسلح في الفضاء، خاصة مع تصاعد اتجاهات عسكرة الفضاء، بسبب محاولة القوى الكبرى الاستحواذ أو الحفاظ على القوة الفضائية من خلال تعزيز قدرتها في مجال الأسلحة الفضائية أو إطلاق الصواريخ أو الأقمار الصناعية حول الأرض، أو باستخدام مقدرات الفضاء لتعزيز العمل العسكري على الأرض.
على الرغم من عدم القدرة على تحويل الفضاء كمنصة لإطلاق النيران على الأرض، فإن المخاوف بشأن ذلك تتصاعد، وذلك بسبب تحول الفضاء إلى مرفق دولي مشاع للاستخدام من قِبل الفاعلين كافة، سواء من الدول أو من غيرها، ومحاولة الدول الكبرى الحفاظ على مركزها وهيمنتها وإقامة قواعد عسكرية ثابتة على القمر أو أي من الأجرام السماوية.
إن حالة اللايقين المرتبطة بمدى ما وصلت إليه الدول من أبحاث في مجال تطوير أسلحة فضائية يدفع البقية إلى الاستثمار فيها؛ لتحقيق ردع مفترض ضد احتمالات التعرض لهجمات. هذا وقد تحول سباق الفضاء من الجانب العلمي إلى العسكري، ومن النشاط العسكري السري إلى العلني عبر تأسيس جيوش فضائية، بما يعني الإقرار بتحول المجال لـ «ساحة حربية»، وفي ظل تصاعد أهمية «القوة الفضائية» على حساب «القوة الجوية «، والتحول من حالة الاستكشاف المداري حول الأرض إلى السعي لإقامة قواعد ومركبات ثابتة على القمر أو غيره من الأجرام السماوية.
وعلى الرغم من تصاعد الاستخدامات العسكرية للفضاء، فإن المجتمع الدولي يتجه إلى زيادة الاعتماد عليه في الأنشطة المدنية التجارية، بخاصة في مجال الإنترنت والاتصالات، وفي تعزيز القدرات في مجال اقتصاد الفضاء، وهو ما يزيد في الوقت نفسه من التنافس والصراع حول مقدراته، وفي هذا الصدد، برزت تحديات الالتزام بسلطة الدولة والقانون الدولي في ظل اختلاف الدوافع سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تجارية.
وتجدر الإشارة إلى تنامي دور الاستخدامات العسكرية للفضاء في مناطق الصراعات، عبر تعزيز عمل منصات إطلاق الطائرات بدون طيار، وهو الأمر الذي يغذي الصراعات الدولية، ولم يقتصر تحدي الأمن الفضائي على البعد العسكري فقط بل برزت تحديات جديدة، مثل تحديات التغير المناخي، مع تفاقم مشكلة النفايات الفضائية، والتي يمكن استخدامها كسلاح غير مباشر من قِبل دولة ما لتدمير قمر صناعي للعدو، وذلك دون مساءلة دولية.
القانون الدولي وفرص تعزيز الأمن الفضائي
كان من أهم الجهود الدولية لاتخاذ إجراءات وتدابير وقائية لحماية الأمن الفضائي التوصل لاتفاقية الفضاء الخارجي والأجرام السماوية عام 1967، وهي المعنية بتنظيم الاستخدام السلمي، ومرور الرحلات والمركبات الفضائية، وحرية استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي دون تمييز وعلى قدم المساواة، وعدم جواز التملك القومي للفضاء أو ادعاء السيادة أو وضع اليد أو الاحتلال أو أي وسيلة أخرى، والتزام الدول في مباشرة نشاطها بالقانون الدولي بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة بغية صيانة السلم والأمن الدولي.
ولكن لم تذكر الاتفاقية الأسلحة الفضائية مع التطور في مجال نشرها واستخدامها، إلى جانب عدم وجود اتفاق دولي يمنع الاختبارات العسكرية للقدرات الصاروخية في الفضاء. وعلى الرغم من حظر المعاهدة أسلحة الدمار الشامل، فإنها لا تتطرق للأسلحة التقليدية الأخرى. ورغم ذلك يمكن تكييف ذلك وفق روح ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة إلى جانب معاهدة الأمم المتحدة للقمر (اتفاق القمر) عام 1979. والتي تؤكد أن القمر جزء من التراث المشترك للبشرية، وأن موارده «لا تخضع للاستيلاء الوطني من خلال المطالبة بالسيادة، أو عن طريق الاستخدام أو الاحتلال، أو بأي وسيلة أخرى».
وتواجه عملية التحكم أو السيطرة على سباق التسلح في الفضاء تحديات ترتبط باختلاف طبيعته عن غيره من المجالات الدولية الأخرى، والتي يمكن إخضاعها للسيطرة المادية وسهولة المراقبة والتفتيش، وصعوبات تتعلق بكون الفضاء مشاعًا لا يستطيع أحد ادعاء تملكه أو ممارسة سيادة الدولة عليه. ومن ثمّ، فإن الاتجاه نحو استكشاف الفضاء قد يؤدي إلى إعادة التاريخ الاستعماري على الأرض والحفاظ على هيمنة الدول الكبرى في الفضاء كساحة جديدة للصراع، ولذلك في عام 2008 اقترحت روسيا والصين خلال مؤتمر نزع السلاح توقيع معاهدة لمنع وضع أسلحة في الفضاء، أو استخدامها أو التهديد بها، لكن ترفض الولايات المتحدة بدء مباحثات حول التسلح في الفضاء بدعوى أنها ستعمل على الحفاظ على القدرات الفضائية لكل من روسيا والصين في تطوير أسلحة فضائية وتحد من قدراتها.
ويواجه مقترح الاتفاق ثلاث مشكلات رئيسة؛ الأولى: غياب آليات التحقق والمراقبة، والثانية: أن الاتفاق المقترح لم يذكر قضية الأسلحة الأرضية المضادة للأقمار الصناعية، والثالثة: لم يتناول الاتفاق المقترح تعريف ماهية السلاح في الفضاء الخارجي.
وفي مارس 2019 اجتمع خبراء حكوميون بجينيف من 25 دولة بمكتب الأمم المتحدة لعقد مباحثات حول كيفية منع تحول الفضاء لساحة حربية، وتم وضع عدة بنود يمكن تضمينها في المستقبل في معاهدة للأمم المتحدة، بحيث تأخذ التدابير الدولية على أساس قانوني غير ملزم، ويرى اتجاه من المراقبين أن ذلك يعد أكثر فعالية من اتفاقية ملزمة. بينما يفضل الاتحاد الأوروبي تعزيز إجراءات الشفافية وبناء الثقة لمنع التسلح الفضائي، وتسعى روسيا والصين إلى إعادة تقديم معاهدة دولية محدثة لحظر نشر الأسلحة في الفضاء.
وتطالب الولايات المتحدة بالربط بين ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة بأنه «يمكن لدولة ما استخدام القوة العسكرية لحماية نفسها من الأعمال العدائية»، والفصل الثالث من معاهدة 1967 الذي ينص على «أن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يمتدان ليشملا استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي»، وهو ما يعني أنه بإمكان أي دولة القيام بمهام مراقبة الفضاء وتطبيق القوة الفضائية لحماية ممتلكاتها في الفضاء، ومن ثمّ، تتضح أهمية ترسيخ قواعد لحماية البنية الفضائية من خطر القصف أو التدمير، وكذلك مواجهة الأخطار الكونية مثل التغير المناخي والمخلفات الفضائية.
وتساند الولايات المتحدة مبادرة أخرى بقيادة أوروبية لإرساء «معايير» للسلوك السليم من خلال إنشاء مدونة طوعية دولية للقواعد السلوكية للفضاء الخارجي، ستكون بمنزلة خطوة أولى، يعقبها اتفاق ملزِم، والتي تطالب بالمزيد من الشفافية و»بناء الثقة» بين الدول المرتادة للفضاء كوسيلة لتعزيز «الاستكشاف والاستخدام السلمي للفضاء الخارجي». يمكن لهذا -كما هو مأمول- أن يمنع توليد المزيد من الحطام وتطوير الأسلحة الفضائية. ومع ذلك، وكحال المعاهدة الروسية-الصينية، لم تضع المسودة تعريفًا دقيقًا لما هو مقصود بمصطلح «السلاح الفضائي».
وختامًا، باتت التطورات المتسارعة في مجال الفضاء تكشف عن تنامي عسكرة الفضاء الخارجي من جهة، وعن انتقال التوتر الدولي بين القوى الدولية من الأرض إلى الفضاء الخارجي من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يحمل معه تأثيرات سلبية على الأمن الفضائي كرافد أساسي من الأمن الجماعي الدولي، ويهدد التوجهات العالمية بتحول الفضاء إلى ساحة حربية وتهديد أطر التعاون والتكامل والبحث العلمي، وحقيقة كونه مرفقًا دوليًّا وتراثًا مشتركًا للإنسانية.
لا يوجد تعليقات