مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2023-06-01

الفاعلون المسلحون من غير الدول في العالم العربي خلال عام 2023

تُعد ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول من أبرز التحديات التي تواجه العديد من الدول العربية في الوقت الراهن. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة في العالم العربي، حيث عرفتها دول عربية، مثل: لبنان والصومال والسودان والعراق وغيرها منذ عقود، فإنها تصاعدت بشكل حاد في أعقاب أحداث ما يُعرف بـ «الربيع العربي»، والتي أدت إلى انزلاق دول عديدة، مثل: ليبيا وسوريا واليمن إلى حروب أهلية وصراعات ممتدة، أفضت إلى حالة غير مسبوقة من الضعف والتصدع التي باتت تعاني منها هذه الدول.
 
 
بقلم: أ. د. حسنين توفـيق إبراهيم 
 
 
وتشمل قائمة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي كيانات وتنظيمات عديدة، من أبرزها: التنظيمات الجهادية الإرهابية، مثل: “داعش” و “القاعدة” وفروعهما المنتشرة في عدد من دول المنطقة، والميليشيات المسلحة، مثل: الحوثيين في اليمن والميليشيات في ليبيا، والتشكيلات شبه العسكرية على غرار “الجيش الوطني السوري” المعارض والمدعوم من جانب تركيا، والمرتزقة الأجانب كما هو الحال في ليبيا، وعصابات الجريمة المنظمة التي تنخرط في أنشطة الاتجار في البشر والمخدرات وتهريب السلع، فضلًا عن التنظيمات الهجينة على غرار “حزب الله” في لبنان، فهو من ناحية حزب سياسي يشارك في الانتخابات وتشكيل الحكومات، ومن ناحية أخرى تنظيم مسلح لديه قدرات عسكرية لا تقل عن قدرات الجيش اللبناني إن لم تكن تفوقها. كما تصنفه دول عديدة على أنه منظمة إرهابية. 
 
 
ويُلاحظ أن الفاعلين المسلحين من غير الدول ينشطون ويتمددون في الدول الضعيفة والمتصدعة، حيث إنها تمثل بيئات ملائمة لظهورهم، واستمراريتهم، وتصاعد أدوارهم. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون دول، مثل: الصومال واليمن وليبيا وسوريا ولبنان والعراق هي الأكثر معاناة من أنشطة الفاعلين المسلحين من غير الدول. فالدول الضعيفة والمتصدعة تعاني بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة من غياب السلطة المركزية أو ضعفها، وبالتالي فهي تفتقر إلى واحدة من أبرز خصائص الدول بحكم التعريف، وهي احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة. وفي ظل هذا الوضع تعجز الدولة عن فرض سيطرتها على كامل إقليمها، حيث تبقي مناطق خارج سيطرتها. كما أنها لا تستطيع حماية حدودها، أو توفير الأمن لمواطنيها، ناهيك عن عجزها عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الرئيسة للسكان، مثل: التعليم والرعاية الصحية والإسكان. وفي ظل حالة الفراغ الأمني التي تعاني منها الدول الضعيفة والمتصدعة ينشط الفاعلون المسلحون من غير الدول. 
 
 
والهدف من هذا المقال هو تسليط الضوء على مستقبل الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي خلال عام 2023، وذلك من خلال استشراف أبرز الأنشطة والتطورات والتفاعلات المحتملة ذات الصلة بهؤلاء الفاعلين، فضلًا عن استشراف حدود الاستمرارية والتغيير في أدوارهم. وفي حدود هذا المقال، سوف يتم التركيز على بعض الأمثلة لفاعلين رئيسين كان -وما يزال- لأدوارهم وممارساتهم تأثيرات كبيرة على التطورات السياسية والأمنية في البلدان التي ينشطون فيها. ومن هؤلاء الفاعلين: “جماعة الحوثي” في اليمن، و“حزب الله” في لبنان، والميليشيات المسلحة في ليبيا، وتنظيما “داعش” و“القاعدة”، فضلًا عن “قوات سوريا الديمقراطية” و“هيئة تحرير الشام” في سوريا. وبالطبع، فإن الأحداث والتفاعلات البارزة التي انخرط فيها هؤلاء الفاعلون خلال عام 2022 تمثل نقطة انطلاق رئيسة في استشراف أدوارهم خلال عام 2023.
 
 
الحوثيون في اليمن.. الفشل في تمديد الهدنة واحتمالات تجدد الحرب
لقد تَمثّل التطور الأبرز الذي شهده عام 2022 على صعيد الصراع الدائر في اليمن منذ عام 2014 بين الحوثيين المدعومين من جانب إيران من ناحية، وقوات الحكومة المدعومة من جانب تحالف دعم الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية من ناحية أخرى، في الهدنة التي تم التوصل إليها بواسطة أممية لمدة شهرين اعتبارًا من 2 أبريل 2022، والتي تم تمديدها مرتين لمدة مماثلة، حيث انتهت في2 أكتوبر 2022. وقبيل انتهاء الهدنة قدّم المبعوث الأممي إلى اليمن «هانس جروندبرج» مقترحًا لتمديدها لستة أشهر أخرى. وقد تضمّن المقترح عناصر إضافية أخرى، مثل: «دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية، وفتح طرق محددة في «تعز» ومحافظات أخرى، وتسيير وجهات إضافية للرحلات التجارية من مطار صنعاء وإليه، ودخول سفن الوقود إلى ميناء الحُديدة دون عوائق، وتعزيز آليات خفض التصعيد من خلال لجنة التنسيق العسكرية، والشروع في مفاوضات لوقف إطلاق النار واستئناف عملية سياسية شاملة». وعلى الرغم من موافقة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة اليمنية على هذا المقترح، فإن الحوثيين رفضوه، ووضعوا شروطًا تعجيزية للقبول به، مثل: التزام الحكومة الشرعية بدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، ورفع جميع القيود عن مطار صنعاء وميناء الحُديدة. 
 
 
وبغض النظر عن الأسباب التي طرحها الحوثيون لرفض تمديد الهدنة، وفي مقدمتها الادعاء المتكرر بأن الجهود الأممية لا تؤسس لسلام حقيقي في اليمن، فإن الهدف الحقيقي من وراء الرفض الحوثي هو الحصول على مزيد من التنازلات من جانب الحكومة اليمنية، ومحاولة انتزاع اعتراف دولي بشرعية الجماعة، ناهيك عن فرض الأمر الواقع، حيث يسيطر الحوثيون على معظم محافظات شمال اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء. 
 
 
وعلى خلفية هذه التطورات، فإنه ما لم يتم تحقيق اختراق يكون من شأنه إحياء الهدنة وإطلاق عملية سياسية تفاوضية بين الجانبين، فإنه من المتوقّع خلال عام 2023 أن تستمر المناوشات العسكرية بين الحوثيين وقوات الحكومة اليمنية. وقد بدأ الحوثيون في أعقاب رفضهم تمديد الهدنة القيام ببعض الأعمال العدائية، كان من أبرزها استهداف ميناء الضبة النفطي في حضرموت بطائرات مسيّرة بهدف تعطيل عملية تصدير النفط. كما أطلق الحوثيون تهديدات ضد الشركات النفطية الأجنبية العاملة في اليمن، وضد بعض دول تحالف دعم الشرعية في اليمن وفي مقدمتها السعودية. وفي المقابل، صدرت تصريحات عن مسؤولين في مجلس القيادة الرئاسي والحكومة اليمنية مفادها عدم استبعاد خيار الحرب في حال استمرار تعنُّت الحوثيين، وعدم تجاوبهم مع الجهود الدولية والإقليمية لإنهاء الحرب وتحقيق السلام في اليمن. وفي ضوء ذلك، فإنه من غير المستبعد أن تندلع حرب مفتوحة بين الجانبين مجددًا، وبخاصة إذا ما أقدم الحوثيون على عملية عسكرية كبيرة، وبالذات في “مأرب” أو “تعز”. ومما يساعد على ذلك هو أن هدنة الأشهر الستة قد مكّنت الحوثيين من التقاط الأنفاس، وإعادة تعزيز قدراتهم العسكرية. كما أنه بمقتضى تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022، قد تم وضع جميع الكيانات السياسية والعسكرية التي تحارب الحوثيين تحت هيكل قيادة موحدة. وبالتالي، فإن الحرب إذا ما اندلعت مجددًا بين الجانبين فإنها سوف تكون أكثر حدة وضراوة من ذي قبل. 
 
 
ومما يعقد من طبيعة الصراع في اليمن، أنه يرتبط في جانب مهم منه بالتطورات التي تشهدها إيران سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد سياستها الخارجية، وبخاصة فيما يتعلق بأزمة برنامجها النووي. ولذلك، فقد دأبت على توظيف ورقة الحوثيين وغيرهم من الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي لخدمة أهداف سياستها الخارجية. ومن ناحية أخرى، لن تقبل المملكة العربية السعودية بأي تهديد لأمنها الوطني ومصالحها الاقتصادية والنفطية من جانب الحوثيين، ولذلك سوف تجد نفسها مضطرة لاتخاذ ما يلزم لحماية أمنها، ودعم قوات الشرعية في اليمن في حالة اندلاع الحرب مجددًا. وفي جميع الأحوال، فإن تجدد الحرب في اليمن سوف يفضي إلى المزيد من تفاقم معاناة الشعب اليمني. 
 
 
حزب الله في لبنان.. «دولة فوق الدولة» 
يُوصف «حزب الله» في لبنان بأنه بمثابة «دولة فوق الدولة»، فالحزب لا يتردد في استخدام قدراته العسكرية من أجل فرض سيطرته على الفرقاء السياسيين، وتحدي الدولة اللبنانية، حيث إنه كثيرًا ما اتخذ قرارات تتعارض مع توجهاتها المعلنة، ناهيك عن كونها ورطتها في مواجهات غير محسوبة مع إسرائيل، ومشكلات مع عديد من الدول العربية. وقد شكّلت قضية سلاح «حزب الله» -وما تزال- معضلة كبرى على صعيد السياسة الداخلية في لبنان، حيث يرفض الحزب المساس بسلاحه بدعوى أنه «سلاح المقاومة». وقد باتت الترسانة العسكرية للحزب تضم منظومات صواريخ متطورة، وطائرات مسيّرة. واستنادًا إلى هذه الترسانة سوف يظل الحزب القوة المهيمنة على الساحة السياسية اللبنانية. 
 
 
وقد تجسد الملمح الأبرز للدور السياسي لحزب الله على الساحة اللبنانية خلال عام 2022 في تعطيل عملية انتخاب رئيس للجمهورية خلفًا للرئيس “ميشال عون” الذي انتهت ولايته في 31 أكتوبر 2022. وقد أعلن “حزب الله” تمسكه بانتخاب رئيس يتوافق مع توجهاته على غرار الرئيس “عون”. وفي هذا الإطار، قال “حسن نصر الله” الأمين العام لـلحزب: “إن المقاومة ليست بحاجة إلى غطاء أو حماية، وما تريده رئيسًا لا يطعنها في ظهرها ولا يبيعها، وهذا هو الحد الأدنى لمواصفات رئيس الجمهورية... في عهد الرئيس “عون” كانت المقاومة آمنة الظهر؛ لأنه كان في بعبدا رجل شجاع”. 
 
 
وعلى خلفية ذلك، فقد أخفق مجلس النواب حتى تاريخ كتابة هذه السطور (21 ديسمبر 2022) لعشر مرات متتالية في انتخاب رئيس جديد للبلاد، وذلك لعدم حصول أي مرشح على العدد المطلوب من الأصوات للفوز بالمنصب. ويُعزى السبب الرئيس وراء ذلك إلى انقسامات سياسية عميقة تشهدها الساحة السياسية اللبنانية، حيث يفضل الثنائي الشيعي متمثلًا في “حزب الله” و”حركة أمل” اختيار رئيس تيار “المردة” “سليمان فرنجية” رئيسًا للبلاد، فيما يحجم “التيار الوطني الحر” حليف “حزب الله” عن دعم فرنجية. وبالمقابل تدفع أحزاب “القوات اللبنانية” و”التقدمي الاشتراكي” و”الكتائب” و”مستقلين” في اتجاه انتخاب “ميشال معوض”. وعلى خلفية هذا الانقسام، دأب نواب “حزب الله” و”حركة أمل”، وكذلك نواب “التيار الوطني الحر” على الاقتراع بورقة بيضاء، ومن ثمّ، تعطيل عملية انتخاب الرئيس.
وفي ضوء ما سبق، فإنه من المتوقّع أن تستمر معضلة انتخاب رئيس جديد للبلاد خلال عام 2023، حيث إن التوصل إلى تسوية سياسية بهذا الشأن صعب ومعقد، وبخاصة في ظل عدم تبلور توافق إقليمي دولي يدفع في اتجاه حسم هذا الملف. كما أن للبنان سوابق في مسألة “الشغور الرئاسي”، حيث استمر منصب رئيس الجمهورية شاغرًا لنحو 29 شهرًا قبل أن يتم انتخاب “ميشال عون” رئيسًا للجمهورية في أكتوبر 2016. وقد كان لـ “حزب الله” دور رئيس في تعطيل عملية انتخاب الرئيس في ذلك الوقت. 
 
 
ومن ناحية أخرى، فإنه من المتوقّع في ظل عودة “نتنياهو” كرئيس لحكومة يمينية في إسرائيل أن يشهد عام 2023 مزيدًا من التشدد والتصعيد تجاه إيران، وبخاصة في ظل فشل التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي. وسوف يكون لأي تأزم في العلاقة بين إسرائيل وإيران صداه على الساحة اللبنانية، حيث دأبت طهران على توظيف “حزب الله” -الذي لا يخفي ولاءه لنظام الولي الفقيه- في خدمة أهداف سياستها الخارجية، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل. كما أن “نتنياهو” لم يخف رفضه لاتفاق ترسيم الحدود البحرية المُوقّع بين لبنان وإسرائيل في أكتوبر 2022. 
 
 
ليبيا.. هيمنة الميليشيات المسلحة في ظل استمرار حالة الانسداد السياسي
منذ عام 2011 لم تنعم ليبيا بالأمن والاستقرار، حيث انزلقت في مرحلة ما بعد «القذافي» إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، لا تزال فصولها تتواصل حتى الآن. وقد تمثلت أبرز تجليات هذه الحالة، في: الحرب الأهلية، وتفكك أجهزة الدولة ومؤسساتها، وغياب سلطة مركزية، ورسوخ الانقسام السياسي والجهوي بين شرق ليبيا وغربها. وقد فشلت جميع جهود ومحاولات إيجاد حل سياسي للخروج من هذا الوضع الانتقالي الصعب والمعقد. كما اقترنت هذه الأوضاع بظهور وتمدد العشرات من الميليشيات المسلحة، التي باتت تتحكم في مفاصل الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد. ولذلك أصبح تفكيك هذه الميليشيات من خلال عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج أحد الشروط الرئيسة للخروج من الأزمة الممتدة والعميقة التي تعاني منها ليبيا. 
 
 
ومن المفارقات الكارثية للوضع السياسي في ليبيا في مرحلة ما بعد “القذافي” هي أن الحكومات المتعاقبة اعتادت أن تعتمد على ميليشيات مسلحة، بما في ذلك مرتزقة أجانب، من أجل مواجهة خصومها السياسيين، مما ترتب عليه قيام هذه الحكومة أو تلك بتمويل وتسليح ميليشيات موالية لها، لا سيما وأن الميليشيات ذات القوة والتأثير احترفت ابتزاز السياسيين. ومما يزيد من خطورة الوضع هو أن جل هذه الميليشيات تتمركز وتتقاسم النفوذ داخل بعض المدن بما في ذلك العاصمة طرابلس، الأمر الذي يُلحق أضرارًا بالغة بالسكان المدنيين في حال حدوث مواجهات مسلحة فيما بينها. 
 
 
وفي ظل حالة الانقسام السياسي الحاد بين حكومتين تتنازعان على الشرعية، وهما حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبد الحميد الدبيبة” ومقرها طرابلس، والتي يعتبرها مجلس النواب منتهية الولاية، وحكومة الاستقرار برئاسة “فتحي باشاغا”، والتي انبثقت عن مجلس النواب في فبراير 2022، وتتخذ من سرت مقرًا مؤقتًا لها، في ظل التنازع بين هاتين الحكومتين شهدت العاصمة طرابلس خلال عام 2022 مواجهات مسلحة متفرقة بين ميليشيات تابعة لحكومة “باشاغا” وأخرى موالية لحكومة “الدبيبة”. وقد حدثت أكثر المواجهات حدة خلال شهر أغسطس 2022، حيث ترتّب عليها وقوع عشرات القتلى والجرحى. وجاءت هذه المواجهات على خلفية رفض حكومة “الدبيبة” تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، الأمر الذي دفع حكومة “باشاغا” إلى محاولة دخول العاصمة طرابلس بالقوة اعتمادًا على بعض الميليشيات المسلحة، إلا أنها لم تفلح في تحقيق هذا الهدف بسبب التصدي لها من قِبل ميليشيات موالية لحكومة “الدبيبة”. 
 
 
وعلى خلفية تفاعلات عام 2022، فإنه من المرجّح أن تستمر حالة الانسداد السياسي في ليبيا خلال عام 2023، وذلك في ظل تمسك كل من حكومة “الدبيبة” وحكومة “باشاغا” بموقفهما، وغياب القوى والضغوط القادرة على فرض تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة تحل محل الحكومتين المتنازعتين، وتعالج القضايا العالقة وبخاصة الإطار الدستوري لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. وفي هذا السياق، سوف تظل الميليشيات المسلحة حاضرة في المشهدين، السياسي والأمني، بقوة، حيث ستبقى الحكومتان المتنازعتان تعتمدان على هذه الميليشيات، مما يغذي استمرار حالة الانقسام. وهي حالة تصب في مصلحة الطبقة السياسية التي تسيطر على المشهد السياسي، حيث إن إجراء انتخابات نزيهة قد يُفضي إلى إقصاء أغلب عناصر هذه الطبقة. كما أن مصلحة الميليشيات المسلحة تكمن في استمرار حالة الفوضى والانقسام هذه، حيث تضمن لها الاستمرارية، وتمكنها من الحفاظ على مكاسبها ومناطق نفوذها.
 
 
وحتى بافتراض التوصل إلى حل سياسي توافقي، من خلال جهود دولية وإقليمية، ينهي حالة الانسداد السياسي، سوف تظل مسألة تفكيك الميليشيات المسلحة تمثل عقبة كبرى، لا سيما في ظل عدم وجود جيش وطني ليبي موحد، حيث ما تزال المؤسسة العسكرية منقسمة. كما أن الكثير من هذه الميليشيات يمتلك مصادر للتمويل والتسليح، فضلًا عن الارتباطات الخارجية. ولذلك فإن عملية تفكيكها سوف تكون صعبة ومعقدة. 
 
 
التنظيمات الجهادية الإرهابية: «داعش» و «القاعدة»
تُشكل التنظيمات الجهادية الإرهابية، وبخاصة تنظيمي «داعش» و»القاعدة» مصدرًا للخطر والتهديد في عديد من الدول العربية، وبخاصة في سوريا والعراق والصومال واليمن وغيرها، وبخاصة في ظل تحول كل من التنظيمين إلى شبكة جهادية إرهابية عابرة للحدود. ومن أبرز التطورات التي شهدها عام 2022 على صعيد تنظيمي «داعش» و«القاعدة» هو مقتل «أيمن الظواهري» زعيم «تنظيم القاعدة» في يوليو 2022، وكذلك مقتل اثنين من زعماء تنظيم «داعش» تباعًا، هما: «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي»، والذي قُتل في فبراير 2022، وخليفته «أبو الحسن الهاشمي القرشي»، وهو قُتل -حسب معلومات أعلنتها القيادة المركزية للجيش الأمريكي- في منتصف أكتوبر 2022. وعلى الرغم من ذلك، فقد اعتاد التنظيمان على التكيف بسرعة مع مسألة غياب القيادة، لا سيما وأن فروع التنظيمين المنتشرة في عديد من الدول باتت تعمل بقدر من اللامركزية. ولذلك نفّذت فروع وخلايا تابعة لهما العديد من العمليات الإرهابية خلال عام 2022. وخير دليل على ذلك هو العمليات الدموية التي نفذها «داعش» في العراق خلال شهر ديسمبر 2022.
 
 
وتأسيسًا على ما سبق، فإنه من المتوقّع خلال عام 2023 أن تستمر عمليات “داعش” و”القاعدة” في دول مثل سوريا والعراق والصومال، لا سيما وأن الأزمات السياسية والأمنية التي تعاني منها هذه الدول توفر بيئة ملائمة لاستمرارية أنشطة التنظيمين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار حالة الفوضى وعدم الاستقرار في كل من ليبيا واليمن سوف يمكن التنظيمين على الأرجح من التمدد فيهما مجددًا. وسوف يكون الوضع أكثر خطورة في حال اندلاع حرب داخلية مفتوحة في البلدين. ومن المهم في هذا السياق أخذ التحذير الذي أطلقه مجلس الأمن الدولي في منتصف ديسمبر 2022 بعين الاعتبار، إذ أكد في بيان رئاسي على تصاعد الإرهاب، حيث أصبح أكثر انتشارًا في مناطق مختلفة من العالم، بمساعدة التكنولوجيات الحديثة. كما أدان المجلس بشدة تدفق الأسلحة والمعدات العسكرية والطائرات المسيّرة والمتفجرات إلى متطرفي تنظيمي “داعش” و”القاعدة” والأفرع التابعة لهما.
 
 
ومن ناحية أخرى، فإنه من المتوقّع أن تستمر جهود محاربة تنظيمي “داعش” و “القاعدة” سواء من قِبل حكومات البلدان التي ينشط فيها التنظيمان، أو الولايات المتحدة الأمريكية و”التحالف الدولي لمحاربة “تنظيم داعش”، أو فاعلين مسلحين من غير الدول مثل “قوات سوريا الديمقراطية” التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، وتحارب “داعش” في هذه المناطق. كما أنها تتولى حراسة السجون والمعسكرات التي تضم مقاتلي “داعش” وزوجاتهم وأطفالهم في مناطق سيطرتها. وفي جميع الأحوال، فإن الحرب ضد “داعش” و”القاعدة” سوف تكون على الأرجح طويلة وممتدة، لا سيما في ظل استمرار بعض الأزمات والتحديات البنيوية التي يستفيد منها التنظيمان في تعزيز قدرتهما على الاستمرار. كما أن الحلول الأمنية لا تكفي بمفردها لتجفيف منابع التطرف والإرهاب.
 
 
سوريا.. ساحة للفاعلين المسلحين من غير الدول
لقد شكَّل الصراع الممتد في سوريا بيئة ملائمة لظهور وتمدد العديد من الفاعلين المسلحين من غير الدول. ويسيطر النظام السوري في الوقت الراهن على حوالي ثلثي مساحة سوريا البالغة نحو 185 ألف كيلو متر مربع. ومن المعروف أن «حزب الله» وميليشيات تابعة لإيران ساندت -وتساند- النظام السوري. وبالمقابل يسيطر فاعلون مسلحون من غير الدول على حوالي ثلث مساحة البلاد، وبالتحديد في الشمال الشرقي والشمال الغربي. ومن أبرز هؤلاء الفاعلين: «قوات سوريا الديمقراطية»، و»هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقًا)، و»الجيش الوطني السوري» المدعوم من جانب تركيا، ناهيك عن استمرار أنشطة «تنظيم داعش» وتنظيمات جهادية أخرى. وكثيرًا ما وقعت اشتباكات مسلحة فيما بين فاعلين مسلحين معارضين للنظام السوري. 
 
 
ومن المتوقّع أن تستمر هذه الأوضاع خلال عام 2023، حيث إن الخبرة التاريخية للصراع، والمعطيات الراهنة ترجح صعوبة التوافق على حل سياسي للخروج من الأزمة الممتدة التي تعاني منها سوريا على الأقل خلال المستقبل المنظور، وذلك بسبب تعدد أطراف الأزمة، وتشعب قضاياها. ومما يفاقم من خطورة الوضع في سوريا هو وجود حالة من التزامن بين تمدد أدوار الفاعلين المسلحين من غير الدول من ناحية، واستمرار التدخلات الخارجية في الشأن السوري من قِبل أطراف إقليمية ودولية من ناحية أخرى. ومن هذه الأطراف: إسرائيل وإيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. ولذلك سوف تستمر سوريا، خلال الأجل القصير على الأقل، ساحة لأنشطة مجموعة من الفاعلين المسلحين من غير الدول، وبخاصة في المناطق التي لا تقع تحت سيطرة النظام السوري من ناحية، والتدخلات الخارجية الكاسحة من ناحية أخرى. 
 
 
وختامًا، تُعد ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي بمثابة الوجه الآخر لأزمة بناء الدولة الوطنية، حيث ينتشر الفاعلون المسلحون من غير الدول ويتمددون في دول ضعيفة ومتصدعة. ولذلك سوف تستمر هذه الظاهرة خلال عام 2023 وما بعده طالما بقيت العوامل والظروف التي تمثل بيئات ملائمة لاستمراريتها. ومن هنا، فإن المدخل الرئيس لمواجهة مخاطر وتهديدات الفاعلين المسلحين من غير الدول هو التوصل إلى تسويات تاريخية في الدول التي تشهد صراعات ممتدة، وإعادة بناء هذه الدول على أسس جديدة تعزز من فاعليتها، وترسخ من شرعيتها، وتحصنها ضد التدخلات الخارجية. ولكن التحدي الأكبر هنا، يتمثل في مدى القدرة على توفير وإنضاج شروط ومتطلبات تحقيق الهدفين المذكورين (التسويات التاريخية وإعادة بناء الدول)، حيث تشير المعطيات الواقعية إلى صعوبة تحقيق ذلك في عديد من الحالات على الأقل خلال المستقبل المنظور. وفي ظل هذا الوضع، فإنه من غير المستبعد أن ينزلق بعض الدول إلى تكريس حالة «الصوملة» بكل ما يترتب عليها من تداعيات كارثية، لا سيما وأن الانقسامات السياسية والجهوية (المناطقية) باتت واقعًا قائمًا في بعض الحالات.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره