استطلاع الرأى
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
- ممتاز
- جيد جداً
- جيد
لم تكن المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية في عام 2025 مجرد فصل جديد في سلسلة صراعات الشرق الأوسط، بل شكلت نقطة تحوّل مفصلية في مسار الفكر العسكري العالمي، إذ أزاحت هذه الحرب الستار عن نماذج قتالية غير مسبوقة، واختبرت للمرة الأولى، وعلى نطاق واسع، أدوات الحرب الحديثة التي تتخطى المفهوم التقليدي للقوة، وتتجه نحو الذكاء والتكامل والسرعة والتفوق المعرفي.
بقلم: لواء ركن طيار /م : عبدالله السيد الهاشمي
لم تعُد الحروب معارك طائرات مقاتلة وجيوش مدرعة تتقابل في ميادين واضحة، بل تحولت إلى ساحات مركّبة، تمتد من الفضاء السيبراني إلى المجال الكهرومغناطيسي، ومن أعماق الأرض إلى فضاء الأقمار الصناعية، وتحكمها لوغاريتمات تحليل القرار، والطائرات المسيّرة، والصواريخ الذكية، وخلايا التلاعب الرقمي.
لقد بدت هذه الحرب كأنها استعراض مفتوح للتكتيكات المتطورة، من الضربات الاستباقية باستخدام مسيرات عالية الذكاء، إلى التلاعب ببيئة القيادة عبر التشويش الإلكتروني، مرورًا بتنسيق ضربات صاروخية لحظية يتم توجيهها بالذكاء الاصطناعي. وعلى الطرف الآخر، كشفت المواجهة عن هشاشة البنى الدفاعية التقليدية، مهما بلغت ترسانتها من حيث العدد، إذا افتقرت للدمج، والمرونة، و”الدماغ العملياتي”.
ما ظهر في هذه المعركة لا يخصّ إسرائيل أو إيران فحسب، بل هو جرس إنذار عسكري عالمي، ورسالة صريحة لكل دولة تطمح لحماية أمنها واستقرارها. لأن الحرب المقبلة قد لا تبدأ بإطلاق نار، بل بإغلاق نظام إلكتروني، أو بتشويش على الأقمار الصناعية، أو بضربة “سايبيرية” تربك جيشًا قبل أن ينهض. وهذا ما يجب أن نقرأه، ونحلله، ونستعد له.
أولاً: الدرونز… حين ارتفعت الحرب دون طيار
جاءت الضربة الأولى من السماء، ولكن ليس من مقاتلات مأهولة، بل من أسراب طائرات بدون طيار تعمل كوحدات ذكية، توزعت مهامها بدقة فائقة على خريطة العمليات. اعتمدت إسرائيل على مفهوم “السرب الذكي”، حيث لا تكون الطائرات المسيّرة مجرّد أدوات استطلاع، بل منصات هجوم وتحليل وتوجيه، تملك قدرة اتخاذ القرار على المستوى التكتيكي، وتستجيب للتغيرات الميدانية بشكل لحظي.
بدأت المرحلة الأولى بهجوم مسيّرات انتحارية على رادارات الكشف البعيد, تبعتها مسيّرات شبحية صغيرة محملة بعبوات محدودة القوة، لكن ذات تأثير مدمّر عند إصابتها لوحدات الاتصال أو مولدات الطاقة المؤقتة. كانت المسيرات تعمل بصمت، وتستخدم مجسات تعمل بالأشعة تحت الحمراء والتصوير الحراري، ولا تعتمد على أنظمة الملاحة التقليدية، مما جعلها محصنة نسبيًا أمام التشويش.
استخدمت إسرائيل أيضًا مسيرات “الموجه الميداني”، وهي التي تنقل إشارات ميدانية إلى صواريخ تُطلق من مسافات بعيدة، بحيث يصيب الصاروخ هدفًا يتحرك داخل منشأة محصنة، بعد تحديد دقيق لمكانه في اللحظة ذاتها. وهذا النمط من التكامل بين المسير والصاروخ شكّل اختراقًا واضحًا في مفهوم التوجيه اللحظي.
في المقابل، أطلقت إيران عددًا كبيرًا من مسيراتها من نوع “شاهد” و”أبابيل”، وقد أظهرت المواجهة أن حجم الأسطول ليس هو الفيصل، بل القدرة على التنقل، والتخفي، والعمل الذكي.
ما ميّز الهجوم الإسرائيلي لم يكن فقط عدد المسيّرات، بل طريقة استخدامها: كانت تتحرك ككائن موحد متعدد العيون والأذرع، يعالج، يُبلغ، يهاجم، ويتراجع، دون أن ينتظر أمرًا مركزيًا. هنا ظهرت نقلة نوعية في الحروب، حيث أصبحت السماء بلا طيار، لكنها ممتلئة بالقرارات.
ثانيا: الصواريخ الذكية… حين تتحول الضربة إلى رسالة
لم يكن دور الصواريخ في هذه الحرب مقتصرًا على التدمير فقط، بل كان وسيلة تعبير دقيقة توصل الرسائل من خلال هدف يتم اختياره بعناية، وتوقيت محسوب بعناية أكبر. الصاروخ في هذه الحرب أصبح خطابًا عسكريًا يحمل توقيعًا سياسيًا واستراتيجيًا واضحًا.
إسرائيل استخدمت صواريخ دقيقة من طرازRampage وDelilah، إضافة إلى صواريخSpice الموجهة بصور الأقمار الصناعية، وتم دمج هذه الصواريخ بمنظومة قيادة وتحليل تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ما سمح بتعديل مسار الصاروخ أثناء طيرانه بناءً على تحديثات قادمة من درون في الميدان، أو من طائرة استطلاع بعيدة.
إيران، من جانبها، أطلقت موجات من صواريخها الباليستية من نوع “خرمشهر” و”قيام”، لكنها اصطدمت بجدار دفاعي محكم: أنظمةArrow الإسرائيلية اعترضت الجزء الأكبر منها.
الصواريخ الدقيقة لا تُقاس بقوة رأسها المتفجر فقط، بل بقدرتها على إصابة عصب الهدف، وتحقيق نتيجة تكتيكية تُربك الخصم، دون الحاجة لإحداث دمار واسع. لقد تحولت الصواريخ في هذه المواجهة من أدوات ردع إلى أدوات تحليل، تحمل في مسارها ونتيجتها رسالة لا يمكن إسقاطها أو تفسيرها إلا في سياق القرار السياسي.
ثالثا: الدفاع الجوي… بين العبء والتفوق المنسّق
أظهرت هذه الحرب بشكل صارخ أن أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، التي تقوم على الطبقات المنفصلة والمنصات غير المتصلة، لم تعد قادرة على التعامل مع التهديدات المعاصرة.
أثبتت هذه المواجهة أن الدفاع لا يكون فعالًا بكثرة المنصات، بل بجودة التنسيق، وسرعة التحليل، والتكامل بين الرؤية والقرار. الدفاع الذكي ليس من يطلق الصاروخ أولًا، بل من لا يطلقه إلا في اللحظة الصحيحة، على التهديد الصحيح، بالسلاح الصحيح.
رابعا: الحرب السيبرانية… شلّ الميدان قبل بدء المعركة
في هذه الحرب، لم يكن الهجوم السيبراني مجرد مكمل للعمليات القتالية، بل كان الضربة الافتتاحية، التي زعزعت الاتزان، وأربكت القيادة، ومهّدت لنجاح الضربات اللاحقة. فقد استهدفت إسرائيل شبكات القيادة والسيطرة الإيرانية بهجمات دقيقة، أُعدّت مسبقًا، وتم تفعيلها بالتزامن مع بدء العمليات الجوية. هذه الهجمات لم تسعَ لتدمير البنية الإلكترونية فحسب، بل لتعطيل الإدراك الميداني.
تمكنت وحدات الحرب الإلكترونية الإسرائيلية من بث رسائل مزيفة داخل منظومات الاتصال، فأوهمت بعض الوحدات الإيرانية بأن التهديد قادم من اتجاهات مغايرة. كما تعرّضت بعض أنظمة الدفاع الجوي لهجمات برمجية أحدثت حالة من الجمود، ما أدى إلى تأخر إطلاق الصواريخ، أو فشلها في العمل أصلًا. كذلك تم التشويش على الأقمار الصناعية الإيرانية، وتعطيل أنظمة الملاحة داخل الطائرات والطواقم البرية.
أما الأخطر، فكان استخدام الخداع الرقمي لإرباك القيادات الميدانية. في إحدى الحالات، استقبل مركز قيادة إيراني أوامر إطلاق عاجلة مصدرها عنوان داخلي معروف، لكن تبين لاحقًا أنها إشارات وهمية صادرة عن خلية إسرائيلية سيطرت على قناة الاتصال. الأمر الذي أدى إلى تحرك بعض الوحدات دون غطاء، لتقع في كمائن لاحقة.
من ناحية أخرى، لم تتمكن إيران من الرد السيبراني بالمستوى ذاته. ورغم امتلاكها وحدات للحرب الإلكترونية، فإن هجماتها كانت محدودة التأثير، وافتقرت للدقة، وتعرضت للاحتواء بسرعة. كما لم تظهر علامات اختراق فعلي لمنظومات القيادة الإسرائيلية، نتيجة الحماية الفائقة، وتعدد الطبقات الدفاعية الرقمية، وفصل أنظمة القرار الحيوي عن شبكة الإنترنت المفتوحة.
لقد أثبتت هذه الحرب أن المعركة تُربح أو تُخسر في مجال غير مرئي، وأن السيطرة على البيئة الرقمية هي بمثابة “قطع النفس” عن العدو. من يستطيع أن يعطل قرار العدو، ويزرع فيه الشك، ويتحكم بمعلومة قبل أن تصل، يكون قد انتصر قبل أن يطلق الرصاصة الأولى.
خامسا: الذكاء الاصطناعي… حين تتكلم الآلة بلسان القائد
من أبرز ملامح العمليات العسكرية الإسرائيلية في هذه المواجهة كان الاستخدام المنهجي والعميق للذكاء الاصطناعي في منظومات اتخاذ القرار. في السابق، كان الضابط يراجع المعطيات، ويقارن السيناريوهات، ثم يصدر أمرًا تكتيكيًا. أما في هذه الحرب، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي هو من يقدم التوصية فورًا، بناء على تحليل لحظي للمعلومات المتدفقة من عشرات الحساسات والمجسات والطائرات.
في غرفة العمليات، كانت الشاشات الذكية تعرض خريطة حرارية حية للتهديدات، مبنية على تحليل بصري وحراري وصوتي. وعند دخول المسيّرات إلى منطقة الاشتباك، كانت البرمجيات تحدد بدقة نوع الأهداف، وتقييم أولويات الاشتباك، وترشيح الخيارات الأكثر فعالية من حيث الزمان والمكان والنتيجة. وعندما يتعلق الأمر بصواريخ عالية الدقة، فإن قرار الإطلاق كان يُتخذ بناء على حساب احتمالية النجاح الميداني، وليس فقط موقع الهدف.
بل إن بعض المنصات الهجومية، خاصة الدرونز التكتيكية، كانت مزوّدة بنظام تعلم آلي يجعلها تتفاعل مع البيئة: فإذا تحرك الهدف، أعادت حساب مسار الهجوم. وإذا ظهر تهديد جديد، أرسلت تحذيرًا فوريًا للمنصة الأم. أما على مستوى الدفاع الجوي، فكان النظام الذكي يقارن مسارات الصواريخ ويحدّد نقاط التقاطع بدقة، ويمنح كل منظومة أوامر إطلاق أو انتظار، دون تدخل بشري مباشر.
أصبحت الحرب معركة بين من يفكر بسرعة، وبين من لا يزال يجمع المعطيات. ومن يسبق العدو في القرار، لا يحتاج أحيانًا إلى المواجهة، لأنه ببساطة، يكون قد حسم النتيجة قبل أن تبدأ.
الخاتمة
ما كشفته هذه المواجهة يفوق مجرد النصر أو الهزيمة. لقد قدّمت للعالم درسًا متكاملًا في كيفية بناء القوة الحديثة: ليس عبر الأسلحة فقط، بل من خلال المنظومة، والعقل، والقدرة على التكيف. الدرونز لم تعد سلاحًا إضافيًا، بل أصبحت في صدارة العمل القتالي. الصواريخ لم تعد ترسل للتخويف، بل تُطلق لتوجيه رسالة. الدفاع الجوي لم يعد مجرد مظلة، بل صار شبكة ذكية تتفاعل بوعي. الحرب السيبرانية لم تعد خطرًا نظريًا، بل واقعًا يسبق الضربات الميدانية. والذكاء الاصطناعي أصبح ضابط الإيقاع في ساحة تتغير كل ثانية.
الدرس الأهم هو أن الحروب الحديثة تُكسب بالعقول قبل العتاد، وبالتحليل قبل القوة، وبالتحكم في الفضاء الرقمي قبل السيطرة على الأرض. الدول التي لا تُدرك هذا التغيير ستبقى رهينة الماضي، حتى وإن امتلكت أقوى الجيوش عددًا وسلاحًا.
فهل نحن مستعدون لعصر تُدار فيه الحروب بالمعرفة، وتُحسم قبل أن تُطلق فيها أول رصاصة؟
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
لا يوجد تعليقات