مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-06-06

توظيف الخيال من تقدير الموقف إلى بناء الخطط والاستراتيجيات

قادت حاجة البشر إلى تجديد مجتمعاتهم سواء على مستوى القيم التي تحكمها أو التنظيمات التي تشكل رافعة لها، إلى إطلاق خيالهم بقوة كي يواكب هذه الحاجة المستمرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أدى التفكير حول دور وحضور المجتمع المدني إلى شحذ الخيال السياسي على المستوى العالمي. وأظن أن قضايا من قبيل التغير السكاني والهجرات والإرهاب والحركات الاجتماعية، تدفع في الاتجاه نفسه.
 
بقلم: الدكتور/ عمار علي حسن
 
وطيلة التاريخ الإنساني وهناك من يثبت دوما أن الحاجة إلى الخيال السياسي ضرورية. ويوجد من يدرك هذه المسألة ويعيها تماما، وهناك من ينخرط فيها ويمارسها دون إدراكها على النحو الذي تتعين عليه، ويتحدد قوامها، أو تتبلور بطريقة علمية.
وقد تعددت مجالات توظيف أو استخدام «الخيال السياسي» لتشمل قضايا محلية ودولية، تضغط على أعصاب المجتمعات والأمم، وتشكل تحديا شديدا، لا بد من الاستجابة له، ومنها التخطيط وصناعة الاستراتيجيات وتقدير المواقف بالنسبة للقائد أو متخذ القرار.
 
أولا ــــ الخطط والاستراتيجيات
 وهما أعلى درجة في التفكير والتدبير والترتيب ونطاق التأثير والأفق الزمني من «السياسة» وإن كانا مثلها يتعلقان بـ «فن الممكن»، والثلاثة متداخلون، ويتشاركون في منظومة الغايات والطرائق، واستخدام الفكر الاستراتيجي بدرجات متفاوتة. 
 
وتبقى الاستراتيجية هي عملية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض، ويصبح «التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها، ولذا فهو يتضمن جانبي الفن والعلم معا. 
ومفهوم الاستراتيجية هو من المفاهيم المتداولة في مختلف العلوم الاجتماعية، بأقلام وألسنة الباحثين والمتخصصين في الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن تظل «الاستراتيجية عملا سياسيا محضا، أو يجب أن تكون كذلك على الأقل، ومثل كل الأعمال المساسة يستلزم النجاح ممارسة حسن تقدير الأمور»، وهذا يتطلب من دون شك قدرا لا يستهان به من الخيال العلمي.
 
لكن كيف يمكن أن يكون حسن التقدير هذا بالنسبة للاستراتيجية؟ 
هنا يجيب المفكر البريطاني آيزيا برلين ليعرف «حسن التقدير» بأنه: «القدرة على إدماج مجموعة كبيرة من المعلومات الأولية الظرفية المتغيرة المتشابكة المتعددة الجوانب، وهي التي تحول كثرتها وسرعتها وتداخلها دون تجميعها وتصنيفها .. والإدماج بهذا المعنى هو رؤية المعلومات الأولية، بوصفها عناصر في نمط واحد، مع تداعياتها، لرؤيتها بصفتها مؤشرات إلى الماضي والاحتمالات المستقبلية، حتى تمكن رؤيتها بصورة براجماتية، على معنى ما يمكن أن تفعله ـ أو ستفعله ـ أنت أو الآخرون تجاهها، وما يمكن أن تفعله ـ أو ستفعله ـ هي لك وللآخرين». وبذا تبقى هذه القدرة هي «موهبة» يفتقدها معظمنا، ولا يمكن تعليمها لمن لا يمتلكها، وتبقى عملية صنع القرار الاستراتيجي تترك دوما مساحة أمام تصوراتنا وتصورات الآخرين واعتراضاتنا واحتجاجاتنا وندمنا على النتائج، وسط أشياء تقوم على التكهنات والفرضيات وتدعنا في شكوك مُحيِّرة.
 
وإذا كان من شروط وضع الاستراتيجية وضوح الأهداف وتكاملها وواقعيتها إلى جانب العقلانية والتخصص والاستمرارية والإلزام والمرونة، فإن أحد أهم هذه الشروط هو الابتكارية والاعتماد على الذات، وهنا يكون للخيال دوره، فمثلا يحتاج تطوير الدول النامية والمتخلفة إلى استراتيجيات ملائمة لظروفها، لاختلاف مواردها وخبرتها السياسية وميراثها التاريخي عن الدول المتقدمة.
ونظرا لأن التفكير الاستراتيجي يتطلب كلا من التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، إلى جانب التفكير في التأثير المتبادل بين المنظومات والتفكير في الزمن والتفكير الأخلاقي، فإن للخيال دوره المهم في صياغة الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب في إطار «صياغة الثالوث الاستراتيجي المتمثل في الأهداف والأفكار والموارد»، وكل منها يحتاج إلى خيال.
 
وهذا الاحتياج يعود إلى أن الاستراتيجية تتسم بأنها «استباقية توقعية»، إن لم تكن «تنبؤية»، وهذا الاستباق يرمي إلى رعاية المصالح الوطنية وحمايتها مما يخبئه المستقبل، ولذا لا يجب أن يقوم على التقديرات الجزافية أو الخيالات الأسطورية، إنما دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، والتي تكون بدورها مشروطة بما يجري على الأرض، وبالإمكانات المتاحة. وهذا معناه أن الخيال الذي يتم توظيفه في إنتاج الاستراتيجيات هو خيال منطقي خلاق، يبدو ضروريا حتى يمكننا توقع ما يأتي، واستباق الأخطار والعمل على تفاديها، أو تحقيق المكاسب وتعزيزها.
 
ثانيا ـ تقدير الموقف
هو عملية مركبة تقوم على جمع وتحليل وربط بيانات تم جمعها بعناية، ووفق طريقة علمية،  لتتشكل في صياغات متعددة الأبعاد تسهم في إمدادنا بالقدرة على اتخاذ القرار السليم حيال القضية أو المشكلة أو الموقف الذي نحن بصدده. 
 
وهذه العملية تحتاج إلى خيال علمي، رغم الخطوات العلمية الصارمة التي تمر بها، والتي تحتاج في بعض الأحيان إلى تحليل كمي. ولذا إن كان لدى مقدرو الموقف تفكيرا إبداعيا، وحدسا سليما، وبصيرة نيِّرة، فإن النتائج التي يتوصلون إليها تكون بالقطع أفضل بكثير مما لو كانوا يفتقرون إلى هذه الملكات العقلية والوجدانية.
 
وقد نبت مفهوم «تقدير الموقف»، الذي تتداخل فيه عدة أنساق، في العلوم العسكرية، وامتد منها إلى مختلف مجالات الحياة، السياسية والاجتماعية والأمنية والنفسية والثقافية، وبذا فهو عملية مهمة يحتاج إليها الساسة ورجال الإدارة والمال والمحاربون ورجال المخابرات والإعلاميون والقائمون بالتعبئة للمقاتلين أو للجمهور في أوقات الانتخابات والاحتجاجات، بل يحتاجها كل إنسان لديه دراية بأهمية تخطيط مسار حياته.
 
وصار «تقدير الموقف» نهجا معتمدا كنقطة انطلاق إلى مستوى ممتد من التفكير والتدبير يبدأ بكتابة دراسات ومقالات تنطوي على ألوان من التنبؤ بالمستقبل وينتهي عند إطلاق تصريحات في اتجاه عموم الناس أو الجمهور، مرورا بامتلاك القدرة على التحاور والتخاطب الفعال. 
 
وهناك عدة شروط يجب توافرها لتكون عملية «تقدير الموقف» سليمة، ونتائجها مضمونة إلى حد بعيد، وهذه الشروط هي:
1 ـ جمع بالمعلومات الكافية: فلا يمكن تقدير الموقف من دون الإلمام بكافة المعلومات المرتبطة بالقضية أو المشكلة التي يُنظر فيها. والمعلومات تكون مكتبية، تجود بها الكتب، وميدانية تجمع من أفواه الجمهور المرتبط بالقضية التي ندرسها ونستشرفها. ويجب أن يبذل أقصى جهد ممكن في سبيل استكمال المعلومات، وألا يتم التعجل في هذا الإجراء، فالمعلومات الناقصة نقيصة، ولن يكون بمقدورها أن توجد الحالة الملائمة لاتخاذ القرار الصائب.
 
2 ـ العقلانية: وتعني هنا اتباع المنهج العلمي في التفكير ابتداء، ثم تحديد التصورات بما يتناسب مع الإمكانات المتوفرة لدى مقدري الموقف، وما يتماشى مع الواقع، الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار أنه في حال من التغير المستمر، وأن ما نقدره الآن قد يطرأ عليه تغير غدا.
 
3 ـ الاستمرار: فتغير الواقع يفرض ضرورة الاستمرار في تقدير الموقف، وبذا لا تصلح التقديرات القديمة في فهم وضع جديد، إنما لا بد من أن تلاحق التقديرات التي نعدها الأوضاع التي تتبدل بلا هوادة. ولذا فإن القائمين على هذه العملية يضعون في مخططهم دوما خانات فارغة يخطون فيها كل مستجد، ويعيدون التقييم بناء عليه.
 
4 ـ التمسك بالرشد: وهذه قيمة مهمة في تقدير الموقف، فالخطل والنزق والتسرع والعشوائية ستقود إلى مسار آخر بعيدا عما نصبو إليه، أو نستهدفه، وبالتالي لن نتمكن من وضع إيدينا على حلول ناجعة للمشكلات التي تعترض طريقنا.
 
 5 ـ الإلمام بالبيئة المحيطة: فعملية تقدير الموقف لا يجب أن تتم بمعزل عما يجري في المجتمع من وقائع وأحداث يقوم بها الأفراد في تفاعلاتهم مع التنظيمات والمؤسسات والأفكار السائدة، والمصالح والمنافع المادية، وكذلك ما يتعلق بالهيبة والكرامة وتقدير الذات.
 
6 ـ المرونة: فهي ليست عملية جامدة، تتم وفق تصورات ثابتة، بل يمكن لكل فرد أو مؤسسة تقوم بها أن تدخل عليها التعديلات التي تعن لها، طالما أنها تخدم الهدف، وتتسم بالانضباط العلمي. ولهذا تختلف المقالات والدراسات التي تقدر المواقف من حالة إلى أخرى ومن فريق عمل إلى آخر.
 
وكل هذه الخطوات على تكاملها تعد ناقصة إن تمت عملية تقدير الموقف بشكل ميكانيكي، متكئة على تحليل الأرقام، على جفافها وجفائها، أو استعراض المعلومات الغزيرة التي تم جمعها من مصادر شتى، متناسية أو مهملة، عن جهل أو غفلة، ضرورة إعطاء مكان للخيال كي ينطلق، وللتفكير الإبداعي أن يمارس دوره في استنطاق البيانات بشكل أفضل، ومنحها طاقة خلاقة. 
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره