2023-05-01
عوالم الميتافيرس ونمو العملات الرقمية
شهد العالم خلال الفترات الماضية قفزات نوعية على الصعيد الاقتصادي والمعرفي والتكنولوجي والعلمي وحتى الاجتماعي، فضلًا عن طرق التواصل بين البشر، كل تلك القفزات رسـخت تغـييراً ملحوظاً على السلوك البشري، وأسَّست لدخولنا إلى عوالم جديدة لم نكن نعرفها من قبل. وكما شهدت البشرية ثورات صناعية وتكنولوجية غيرت وجه العالم، نشهد حاليّاً ثورة رقمية هائلة ستغير الكثير على كوكب الأرض. هذه الثورة قد أسست لدخولنا عصراً جديداً نحن على بوابته حاليّاً؛ حيث إن القادم أكبر وأعمق وأكثر مما نتصور.
بقلم الدكتور: سالم حميد
كل ذلك سيغير في مفاهيم كانت راسخة لسنوات كثيرة ماضية، لكن الواقع أكد أننا سندخل في تغيُّرات جديدة لن يكفي الوقت لنستوعبها؛ فالتطور المتسارع سيفرض نفسه لا محالة على الصعيد العالمي، وأيضًا على صعيد الدول النامية التي ستضطر إلى مواكبة التغيُّر الذي سيرتبط بالاقتصاد الجديد؛ الاقتصاد الرقمي واقتصاد ما يسمى بالميتافيرس، الذي أصبح حديث الساعة بالنسبة للشركات الكبرى وعلى رأسها شركة ميتا التي تضم فيسبوك وغيره من المواقع التي غيرت وجه العالم القديم، وأدخلتنا عوالم جديدة في طرق تواصل البشر. والآن نستعد لدخول عصر عالم الميتافيرس والواقع الافتراضي الذي يستلزم استعدادًا اقتصاديًّا لمواكبته. وعند الحديث عن كل ذلك التطور والتغيُّر فلا بد من تناول دور العملات الرقمية ودورها الكبير في مواكبة عوالم الميتافيرس والواقع الافتراضي.
بدايةً، تمثل العملات الرقمية ثورة جديدة في عالم الاقتصاد الحديث، وتعبر بوضوح عن مواكبتنا له. وتخضع هذه العملات الافتراضية، التي يتداولها الأشخاص على مواقع الإنترنت من خلال محافظ إلكترونية وعبر المنصات الخاصة بأسواقها، إلى عمليات معقدة من التشفير. وتختلف العملات الرقمية عن العملات التقليدية التي يتم تبادلها والاحتفاظ بها في البنوك، والتي لها كيان مادي وسوق قانونية. كما تفتقر هذه العملات المشفرة إلى تنظيم كافٍ وتشريعات تحمي المستثمرين أو المتداولين؛ حيث تخشى بعض الحكومات من طريقة استخدام تلك العملات التي يتعامل بها الأشخاص فيما بينهم بشكل مباشر؛ فهي لا تخضع إلى قيود العملات التقليدية ولا إلى تنظيمها الخاص. وتعمل العملات الرقمية عن طريق ما يُسمّى بـ«البلوك تشين» أو تكنولوجيا سلاسل الكتل. وتخضع هذه العملات إلى ما يُعرَف بتعدين العملات، أو ما يُسمّى بخلق عملات جديدة، وقد بدأ هذا الأسلوب مع عُملة البيتكوين وعبر أجهزة كمبيوتر ضخمة مخصصة للتعدين.
هذا ولا تزال العملات الرقمية تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالتشريعات اللازمة لحماية المستخدمين؛ حيث أدى حظر بعض العملات في عدة دول إلى انخفاض قيمة العملات بشكل كبير، فضلًا عن مخاوف من تشريعات قد تحد من العمل في العملات المشفرة حول العالم. كما أن هناك قلقًا متزايدًا من استخدام أو شراء العملات المشفرة؛ حيث إن البنوك المركزية في العديد من الدول تقوم بحماية أموال الأفراد في البنوك، وهذا يعني أن أموالك على عكس العملات المشفرة تكون محمية وقابلة للاسترجاع حتى في حال إفلاس البنك أو إغلاق المصرف الذي تحتفظ بأموالك فيه. أما في حالة العملات المشفر الموجودة على منصات تبادل العملات فهي مهددة بشكل كبير، لأن أسعار تلك العملات متقلبة؛ فعلى سبيل المثال، فقدَت عملة البيتكوين نسبة كبيرة من قيمتها، حتى إنها مهددة بالانهيار، وليست البيتكوين وحدها بل الكثير من العملات الأخرى، مثل: الإثيريوم والدوجكوين.
وقد سبق أن أصدرت الأمم المتحدة تقارير تحذر من مخاطر العملات الرقمية في دول العالم الثالث أو البلدان النامية، وتطرقت إلى ضرورة الحد من توسع هذه العملات في تلك الدول عن طريق خلق عملات مشفرة مرتبطة بالبنوك المركزية في الدول النامية حسب احتياج كل دولة، بهدف الاستفادة من العملات المشفرة والحد من المخاطر على الدولة ككل وعلى الأفراد أيضًا، ومنع التهرب الضريبي واستخدام العملات بطرق غير شرعية أو لخدمة كيانات تهدد الاستقرار والأمن في تلك الدول. ونوّهت كذلك بضرورة التنظيم المالي للعمل في قطاع العملات المشفرة وفرض قوانين خاصة بالعملات الرقمية وآلية عملها، وتقييد الترويج لتلك العملات. وهو ما يعني الاستفادة من التطور الحاصل في المجال الرقمي لكن مع تأمين الحماية الكافية في مجال العملات الرقمية.
ومع أن العملات المشفرة تُعَد مستقبل العملات العالمية، وستكون أساسًا للتبادل النقدي في عالم الميتافيرس، فإنها تشهد حاليًّا تقلبات واسعة قد تقود إلى مزيد من التنظيم في عمل هذه العملات، أو تقود إلى تغيير شامل بعد انهيار محتوم؛ فقرارات البنك الفيدرالي الأمريكي المتعلقة برفع سعر الفائدة وأيضًا القيود التي فرضتها بنوك عالمية، تسببت في تخفيض سعر العملات الرقمية الأساسية، وربما تحتاج إلى وقت طويل لتعود إلى سابق عهدها حتى تعود السوق للعمل كما كانت قبل رفع سعر الفائدة على أقل تقدير. هذا ومن غير المعلوم -حتى هذه اللحظة- توجه السوق فيما يتعلق بالعملات الرقمية ومستقبلها، وفيما إذا كانت ستُعتَمَد في نهاية المطاف أو سيُخلَق شكل جديد لتلك العملات وتنهار الحالية تمامًا، وهذا يعني خسائر بمليارات الدولارات في سوق تُقدَّر بأكثر من تريليون دولار.
وهذا يقودنا إلى سبب وجود كيانات كبيرة تسعى لاستمرار هذه العملات التي باتت جزءًا من الاقتصاد العالمي، وأنه ليس غريبًا وجود مستثمرين كبار في العالم يحاولون جهدهم لدعم هذه العملات ومنع انهيارها بشكل كامل.
في الحقيقة إن مستقبل العملات الرقمية على المحك؛ فإذا نجحت في تجاوز محنتها العالمية واستمرت من خلال ثقة المتداولين، فإنها من دون شك ستستمر وستكون محركًا اقتصاديًّا كبيرًا في المستقبل، وهذا هو جوهر العملية. فإذا كانت هناك ثقة من قِبل المتداولين في هذه العملات فستنجو، أما إذا كانت تخضع فقط للعرض والطلب وتتأثر بالتغيرات الاقتصادية بشكل مفرط فإن المستثمرين سيسعون في نهاية المطاف للتخلص منها، وستنهار هذه العملات، وقد تتلاشى مع عدم وجود قوانين تحميها، وقبل كل ذلك غطاء بنكي يحمي مقتنيها. لكن على الرغم من كل ذلك، فإن العصر الجديد على أبواب عالم الميتافيرس يفرض على دول العالم تقبُّل العملات الرقمية التي ستكون المحرك الأساسي في الاقتصاد.
إن اقتصاد الميتافيرس سيفرض شكلًا جديدًا من الاقتصادات التي ستكون محركًا لأساليب اقتصادية وأشكال ليست معهودة. وعند التبحر في هذا العالم سنجد أن العملات الرقمية جزء أساسي ولا يمكن النظر لها بتشكك؛ لأن فكرة الميتافيرس كلها تتلاءم مع الشكل الرقمي للعملات الافتراضية أو المشفرة، ومن ثَمَّ فإن الميتافيرس سيكون حاميًا ومشجعًا لتلك العملات. وعند الحديث عن الميتافيرس والطفرة التي سيشكلها سنجد أننا نتجه نحو الطريق الصحيح؛ فعوالم الذكاء الاصطناعي والعالم الافتراضي ستفتح آفاقًا جديدة، وقد تسهم في هذا الاقتصاد بأكثر من تريليون دولار خلال العشر سنوات المقبلة، وقد دخلت شركات كبرى، مثل: ميتا (الشركة الأم لفيسبوك)، ومايكروسوفت، وغيرهما الكثير في هذه العوالم. أما الشركات التي ليس لها علاقة مباشرة بالتقنيات التكنولوجية فهي حريصة على توفير منصات خاصة في عوالم الميتافيرس؛ فالشكل الجديد الذي فرضته الأعوام الأخيرة وانتشار أوبئة غيرت أساليب العمل القديمة سرَّعا من الانتقال إلى طرق جديدة في التواصل والعمل. وقد أصبح الميتافيرس موازيًا للعالم الواقعي؛ فحضور اجتماع افتراضي أو الالتقاء بعملائك عن طريق الواقع المعزز سيكون جزءًا أصيلًا من العمل، وليس مجرد نظريات أو رفاهيات، بل هو الواقع بحد ذاته.
حين نتحدث عن الميتافيرس فنحن نتحدث عن التجارة الإلكترونية؛ حيث سيكون هذا الواقع الافتراضي بمثابة متاجر إلكترونية مفتوحة ومتنوعة، فعصر البحث عن طريق الويب يتغير إلى دخولك إلى أسواق افتراضية واختيار ما يناسبك، وهذا قد يغير أيضًا من طرق التسويق التي ستغدو افتراضية بما في ذلك مراكز التسوق وأسواق التجزئة، وأيضًا نتحدث عن مراكز الاجتماعات والمؤتمرات الافتراضية على صعيد محلي أو عالمي، وبما يتناسب مع جميع الشركات، فضلًا عن مراكز التدريب والتدريس وربما الجامعات التي لا بد أن تتيح مراكز لها في العالم الافتراضي. أما إذا تحدثنا عن الترفيه والألعاب وأيضًا التواصل الاجتماعي فإن مفاهيمها الحالية ستختلف تمامًا مع دخول عصر الميتافيرس، وكل ذلك بالطبع سيتيح العمل لعدة قطاعات فاعلة، وسيعزز العملات الرقمية التي سيكون لها فرصة للنمو الهائل مع التطور الكبير في العوالم الافتراضية.
وختامًا، بالنسبة للدول العربية فإن دخول عالم الميتافيرس ومواكبة التطورات هو أمر لا بد منه؛ وهو ما أدركته دولة الإمارات العربية المتحدة وعملت عليه خلال الفترة الماضية. وعلى الرغم من أن التشريعات أو حتى تنظيم العمل في عالم الميتافيرس في دولنا العربية لم ينطلق بعد، فإن الإمارات ستكون رائدة في المنطقة بهذا الشأن ليكون هناك مركز خاص لتنظيم والرقابة على التحويلات المادية، أي العملات المشفرة التي ستُستَخدَم في هذا العالم. وقد كان لوزارات الإمارات اهتمام كبير في أن يكون لها مقر في منصات الميتافيرس، مثل وزارة الاقتصاد التي أطلقت مقرًّا لها على الواقع الافتراضي لتفعِّل فرصًا جديدة في الاقتصاد الرقمي. كما تسعى الإمارات لأن تكون ضمن المساهمين العشرة الأُوَل في الميتافيرس؛ لتوفر فرصًا اقتصادية جديدة للدولة والشركات العاملة فيها عبر طرق أبواب العالم الافتراضي والدخول من أوسع هذه الأبواب، وتوفر أيضًا فرص عمل لآلاف الشباب عبر وسائل مختلفة تضمن تنوع مصادر الاقتصاد في البلاد في عوالم الميتافيرس التي هي ببساطة ستكون مستقبل الإنترنت.
لا يوجد تعليقات