مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-08-01

كلاوزفـيتز وبوتيــن..نظريات عسكريـة بيـن الدراسـة والتطبيـق

إنه ذلك الرئيس ذو المهارات المتعددة، لقب بالدب الروسي ويمكن أن يقوم بدور ثعلب ماكر إذا تطلب الأمر، يعرف قدرات دولته جيداً وما يعرفه أكثر هو ما يمكن للطرف الآخر أن يقوم به، ومن هذه المرتكزات فإنه يبدأ بمغامراته الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية وحتى المعلوماتية لتحقيق هدفه السياسي، وفي كل مرة ينجح فيها تتولد لديه رغبه جامحة وطموح آخر بالخوض في مغامرة أخرى في سبيل سعيه المستمر إلى إعادة روسيا الاتحادية لسابق عهد الاتحاد السوفييتي وربما أكبر من ذلك، إنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي لم يعطي للرئيس أوباما الكثير من الوقت لكي يفكر ويقدر الخطوة القادمة المتوقعة منه، بل وضعه في إطار ردة الفعل المستمرة.
 
بقلم: العميد الركن/ مطر النعيمي
 
ولم تفلح محاولات أوباما في لجم طموحه بالرغم من استخدامه كافة سبل الدبلوماسية الناعمة من مكالمات هاتفية مباشرة أو حتى الدبلوماسية الخشنة عن طريق العقوبات الاقتصادية، والتي تبدو هي الخيار الوحيد المتكرر الذي تستخدمه الإدارة الأمريكية، وحتى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري فقد ظهر عليه اليأس من تصرفات روسيا، وكل ما استطاع القيام به هو تذكير روسيا بعدم القبول بما تقوم به وإنه مخالف للأعراف والقوانين الدولية، وكأنه يمارس دوره النظري القديم في الكونجرس، ولكن على ماذا يستند بوتين في رسم سياساته؟ هل هو ذكاء فطري؟ أم ضعف الطرف أو الأطراف الأخرى؟ أم أنه قرأ التاريخ جيداً؟ برأيي إنه كلاوزفيتز، نعم إنه ذلك المفكر والمؤرخ الكبير، والذي قدم للعالم الحديث فكراً عميقاً في الإستراتيجية والحرب عن طريق مؤلفاته القيمة، والتي لم يضاهيه فيها إلا الصيني صن تزو. فهل حفظ بوتين نظريات كلاوزفيتز جيداً وقام بتطبيقها؟ أم أنه توافق فكري بمحض الصدفة؟ الفرضية الأولى تبدو هي الأرجح، أما أن يكون قد حدث ذلك صدفة فمن الصعب توحد الفكر النظري والعمل التطبيقي بهذه الصورة.
 
سياسة بوتين في أوكرانيا
في أوكرانيا ما زال بوتين يمارس نظريات كلاوزفيتز بالرغم من أن تلك النظريات قد أشبعت بحثاً ودراسة سواء في المؤسسات الأكاديمية أو العسكرية، فكيف لم تنتبه الأطراف المنافسة لسياسات بوتين لذلك؟ على الأقل لتتوقع ما سيقوم به من خطوات في المستقبل. لكن يبدو أن بوتين يمارس سياسة الخداع السياسي الفكري حيث يصعب تحديد المرجعية النظرية لما يقوم به من أفعال وذلك لكي يتجنب توقع أعماله والقيام بأعمال مضادة من قبل الأعداء أو المنافسين، في أوكرانيا تبدو ممارسات بوتين واضحة لمن يمعن النظر فيها ويحللها، ولو ربطنا الأحداث التي جرت على الساحة الأوكرانية بنظريات كلاوزفيتز لوجدنا توافقاً بين الجانب العملي لبوتين ونظرياته كلاوزفيتز.
 
يقول كلاوزفيتز «الحرب ما هي إلا إحدى الوسائل المستمرة للدبلوماسية»، وعندما حاصر المتظاهرون المناوئون لسياسات الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش مبنى البرلمان الأوكراني في كييف، قام بوتين بمساعدة الرئيس المخلوع على الهروب لكي يحتفظ بالرئيس الشرعي للبلاد، ويستطيع مناطحة الغرب بالقانون الدولي ووجوب احترامه، فدبلوماسية بوتين في تلك الفترة كانت تهيئة الأرضية المناسبة لكي ينطلق منها لخطوته التالية في طموحاته تجاه أوكرانيا، وبين ليلة وضحاها قام بوتين بالسيطرة على جزيرة القرم باستخدام القوة العسكرية كوسيلة لخدمة هدفه السياسي وبالقدر والقوة المناسبة، حيث لم تحدث مواجهات تذكر أو خسائر في الأرواح أو الممتلكات، وسيطر على معسكرات الجيش والقواعد البحرية والجوية وعزل القادة غير المواليين من الجيش الأوكراني، فقد كان يقوم بالعملية الدبلوماسية تجاه الحكومة الجديدة في أوكرانيا، وكذلك الدول الغربية، وفي نفس الوقت قام بالعمل العسكري في جزيرة القرم ليساهم في تحقيق هدفه السياسي وهو إجراء الاستفتاء بصورة سريعة، والموافقة على طلب انضمامها لروسيا الاتحادية، كل ذلك حدث بين ليلة وضحاها وبسرعة خاطفة، ولم يأبه لكافة الاعتراضات القادمة من الغرب والمنظمات الدولية، فكان توافقاً غريباً بين فكر كلاوزفيتز وبوتين عندما استخدم الوسيلة العسكرية كأداة لخدمة هدفه السياسي، وكذلك عندما جعل العمل العسكري بحد ذاته جزءاً من الدبلوماسية، بل كان هنالك تداخل بين ما قام به الجيش في جزيرة القرم والإجراءات التي تبعت ذلك فيما يخص الاستفتاء على استقلال الجزيرة والذي حدث بسرعة كبيرة ومتوافقة مع سيطرة القوات الروسية على مفاصل الجزيرة، فكان أفضل استخدام للقوة العسكرية لتحقيق الهدف السياسي وهو الاستفتاء وانضمام جزيرة القرم للاتحاد الروسي.
 
كما أن نظرية كلاوزفيتز عن «الطبيعة المزدوجة للحرب» كانت حاضرة في ذهن الرئيس بوتين، حيث سرعة سيطرة قواته على جزيرة القرم كان لها وجه آخر في العمل السياسي الذي تلا تلك العملية، وكذلك صلته بها من حيث التأثير على رغبة سكان الجزيرة في التصويت لصالح انضمامهم لروسيا، حيث كانت المقارنة بين سرعة الحسم والقوة الروسية وبين الفوضى التي تعاني منها الحكومة الانتقالية في كييف، فكان الخيار لروسيا بالطبع، هذا بجانب العوامل الأخرى التي أثرت على نتائج التصويت وأهمها الأصول الروسية للسكان، كما أن نظرية كلاوزفيتز تقول: إن شدة وحجم العمل العسكري يجب أن يتناسب مع الهدف السياسي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم العمل العسكري مقام العمل الدبلوماسي
 
. وقد كانت هذه النظرية حاضرة في ما قام به بوتين حيث الاستخدام المناسب للقوة وبعدها استكمال العملي السياسي، وبوتين بذلك فرض الأمر الواقع على الدول الغربية حول الاستفتاء على الجزيرة، واستند إلى القانون الدولي في إجراء الاستفتاء، وهو أيضاً استمد فكرة الطبيعة المزدوجة للحرب من كلاوزفيتز وطبقها وحصل على النتائج التي يرغب بها. لقد استخدم الرئيس بوتين وجهي الحرب في عملية السيطرة على جزيرة القرم، الأول كان في سرعة الحسم العسكري، والثاني كان في انعكاس ذلك على تغيير الواقع السياسي للجزيرة. 
 
من ناحية أخرى، فكلاوزفيتز في إحدى نظرياته يبين العلاقة بين العمل العسكري والعمل الدبلوماسي حيث أنه لا يمكن فصل العمل العسكري عن المسار السياسي، وأن وجود القوات المسلحة في أي دولة ما هو إلا لخدمة أهدافها السياسية. كما أن الغاية السياسية تحدد أهداف العمل العسكري، والقائد الإستراتيجي العسكري على علم كامل بالهدف السياسي، لذا فهو يقوم بالدور المطلوب منه فقط تحقيقاً للهدف الأكبر.
 
هدف بوتين السياسي
يبدو أن هدف بوتين السياسي كان واضحاً وهو السيطرة ليس على جزيرة القرم فقط بل على الجزء الشرقي من أوكرانيا، وعلى ضوء ذلك فلم يستخدم بوتين الأداة العسكرية بقوة أو بحجم كبير كون الهدف السياسي في ذلك الوقت بالتحديد لم يتطلب أكثر من ذلك، وهو السيطرة على جزيرة القرم بأقل مجهود وخسائر ممكنة. إلا أن بوتين ينظر إلى الأمام وإلى المستقبل في ذلك، فلو كان قد استخدم قدراً أكبر من القوة العسكرية مثلاً لأصبحت الأمور أكثر تعقيداً عليه، إلا أن خططه المستقبلية ورغبته في كسب قلوب وعقول سكان أوكرانيا الشرقية جعلته يتقمص دور المنقذ، وكما يقرأ من سياساته الحالية فإنه يخطط للسيطرة على الجزء الشرقي من أوكرانيا إن لم يكن في القريب العاجل، وضمن العملية الدبلوماسية العسكرية التي تجري حالياً، فقد يكون في المستقبل القريب حيث يعرض بوتين الآن مقترحاً لإعطاء الأقاليم في الجزء الشرقي من أوكرانيا حكماً ذاتياً يستطيع بوتين من خلاله العمل مستقبلاً بهدوء على تعزيز الانتماء الروسي بين السكان من أجل طلب الاستفتاء مستقبلاً للانضمام للاتحاد الروسي كما حدث في جزيرة القرم، وإن لم يحصل على كل الأقاليم الشرقية فإنه سيحصل بالتأكيد على عدد منها، وهو بذلك وفي نهاية المطاف يعتبر أكبر الفائزين.
 
نظرية أخرى من نظريات كلاوزفيتز كانت تتحدث عن مثلث الحرب الذي يتكون من ثلاثة أضلاع: العنف، عدم الوضوح والاحتمالات والهدف السياسي. فهل طبقها الرئيس بوتين أيضاً، في أوكرانيا استخدم القوة في جزيرة القرم للسيطرة على الجزيرة، كما وضع بقية المدن الأوكرانية وخاصة في شرق البلاد في المستقبل المجهول بالنسبة لها وبالنسبة لحكومة أوكرانيا المؤقتة وكذلك بالنسبة للغرب، وبعد أن سيطر على جزيرة القرم فإن بوتين ينتظر الفرصة التي قد تحدث نتيجة الوضع غير المستقر في أوكرانيا لكي يبني عليها أهدافه الموضوعة سلفاً.
 
فعلى سبيل المثال، انطلاق بعض المظاهرات في مدن رئيسة في الجزء الشرقي من أوكرانيا تطالب بالانفصال عن أوكرانيا، وهي بذلك تمثل الفرصة، والتي حدثت بصورة تلقائية كأحد أضلاع الصراع، مما أكد نظرية المجهول والاحتمالات والفرص الهامشية غير المتوقعة. أما الضلع الثالث وهو الهدف السياسي، حيث أنه من الواضح أن الرئيس بوتين يهدف إلى ضم أقاليم أخرى أو على الأقل إعطائها حكماً ذاتياً شبه مستقل لكي يبقى على نظرية الاحتمالات في المستقبل القريب والبعيد أيضاً. لقد اعتمد بوتين على استخدام القوة العسكرية واستفاد من الفوضى التي تعيشها الحكومة المؤقتة في كييف لتحقيق أهدافه السياسية.
 
الغاية والهدف والوسيلة
يقول كلاوزفيتز إن الغاية والهدف والوسيلة على ارتباط وثيق في ذهن القائد الإستراتيجي، ومن أدنى مستوى في العمليات العسكرية يكون الهدف السياسي حاضراً ولو بصورة غير مباشرة في ذهن القادة العسكريين، كما أن القائد الإستراتيجي ينظر للعمل العسكري ككل كمرحلة معينة من العملية السياسية التي يقوم بها، لقد برهن بوتين في أحداث أوكرانيا على الأقل بأنه يستطيع قراءة التاريخ والاستفادة من نظريات المفكرين في تحقيق أهدافه، وإلا فكيف تقوم أعرق الجامعات السياسية والعسكرية بتبني نظريات كلاوزفيتز مثلاً ولا تجد من يطبقها على الأرض؟ فها هو بوتين يقدم للباحثين والمفكرين الآخرين نموذجاً حسب رأيي الشخصي في تطبيق نظريات كلاوزفيتز بعد أن نفض عنها الغبار وأعادها للواجهة، وهو يقدم درساً آخر في تلونه كالحرباء بما يتناسب مع البيئة الدولية في تلك الفترة ومع الهدف الذي يصبو إليه، فتارة تجده ينادي بالقانون الدولي، وتارة أخرى بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإذا تطلب الأمر فأنه يستخدم العمل العسكري بصور خاطفة يعود بعدها لممارسة الدبلوماسية وكأن شيئاً لم يحدث، أنه ليس دباً روسياً وليس ثعلباً إنه حرباء متلونة.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره