مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-05-01

كيف تغيــرت أساليـب كسـب المعارك؟

سُئل «جوزيف ناي»، فيلسوف «القوة الناعمة»، و»بروفسير» العلوم السياسية الشهير في «هارفارد»: من بات أكثر قدرة على كسب المعارك؟ فأجاب: «من تربح قصته في الإعلام».
لا تختلف إجابة «ناي»، صاحب كتاب «سبل النجاح في عالم السياسة الدولية» الشهير، كثيراً عما قاله أيمن الظواهري زعيم تنظيم «القاعدة»، في هذا الصدد. فقد أرسل الظواهري رسالة مناصحة إلى أبي مصعب الزرقاوي، زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، في العام 2005، ومما كتبه في هذه الرسالة: «تذكر يا أخي أن نصف معركتنا في الإعلام».
 
إعداد:ياسر عبد العزيز
 
يؤمن «بروفسير هارفارد»، وأحد منظري السياسات الخارجية الأمريكية، إذن بما يؤمن به المقاتلون في الجبال البعيدة تحت «راية الجهاد». لقد اتفق الطرفان على أن «الإعلام بات سلاحاً حاسماً في المعركة»، وستكون الصورة غالباً أكثر العناصر تأثيراً في الإعلام.
في بعض الأدبيات التي نظّرت لما عُرف بـ «الجيل الرابع من الحروب»، حلت الصورة كـ «أداة قتال رئيسة»، وفي معظم المعارك والنزاعات التي اندلعت منذ حرب فيتنام، كانت الصورة أحد الأسلحة التي أثّرت في حسم نتيجة أي معركة.  لقد طرأ متغير جديد على وسائل كسب الحرب.
 
من الخيول المدرعة إلى دبابات «البانتزر»
كانت الخيول المُدّرعة كفيلة بحسم أي معركة من معارك الجيل الأول للحرب، إلى أن تم اختراع المدفعية؛ فباتت تلك الخيول وبالاً على من يستخدمها. لقد حدث شيء من هذا القبيل، حين غزا نابليون بونابرت مصر في العام 1798، ليواجه بمدفعيته فرسان المماليك الشجعان في ملابسهم المزركشة، ودروعهم الثقيلة، وخيولهم الأصيلة. لقد كانت النتيجة مفجعة؛ إذ انهزم الفرسان الشجعان ببساطة، ولم يُمنحوا فرصة منازلة العدو بسيوفهم، وخرجوا من التاريخ.
 
لم يستفد فرسان المماليك شيئاً من الخيول المطهمة، لأن مدفعية الجيش الفرنسي كانت أكثر تأثيراً، لكن الآلة العسكرية الفرنسية كلها منيت بهزيمة نكراء لاحقاً في مستهل الحرب العالمية الثانية، على يد الجيش الألماني، الذي كان يستخدم دبابات مدرعة خفيفة الحركة من نوع «بانتزر مارك الثاني»، وهي الدبابات التي مكنته من تحقيق الاختراق في صفوف العدو، والالتفاف على خط «ماجينو»، مستفيداً من دعم سلاح الجو وامتلاكه قدرة عالية على المناورة.
 
إنها قصة الحرب إذن. الموارد والمعدات ووسائل استخدامها تحدد اسم المنتصر إلى حد بعيد، بصرف النظر عن شجاعة المقاتلين أو الحق الأخلاقي.
 
سلاح جديد فعال
يبدو أن لدينا سلاحاً جديداً يزيد الاعتماد عليه باطراد في حروب اليوم... إنه سلاح الصورة.
بزغ تأثير سلاح الصورة في المعارك الحربية مبكراً في منتصف القرن الماضي، حين كانت الولايات المتحدة تخوض معركة في الأراضي الفيتنامية، لنصرة جيش الجنوب في مواجهة جيش الشمال الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفييتي السابق والصين.
يُعتقد على نطاق واسع أن مجموعة من الصور التي التقطها مصورون بارزون قاموا بتغطية المعارك كانت أحد  أسباب صدور قرار سحب القوات الأمريكية وإنهاء الحرب هناك.
من بين تلك الصور صورة لطفلة فيتنامية تُدعى «كيم فوك»، تم التقاطها في العام 1972، بواسطة مصور أمريكي يعمل لصالح وكالة «أسوشيتد برس» (أ ب)، وهي الصورة التي حصل صاحبها لاحقاً على جائزة «بوليتزر» الصحفية الرفيعة.
 
كانت القوات الفيتنامية الجنوبية، المتحالفة مع الولايات المتحدة، قد قصفت إحدى قرى الشمال بـ «النابالم»، حيث دفع القصف الوحشي سكان القرية للخروج مذعورين والحرائق مشتعلة بأجسادهم، لتبرز صورة الطفلة «كيم» وهي عارية تماماً تصرخ من الرعب والألم، بعدما اشتعلت أجزاء من جسدها بفعل القذائف الحارقة.
ظلت الصورة تلعب أدواراً مؤثرة في الحروب منذ ذلك الوقت، إلى أن وقعت حرب الخليج الثانية 1991، وهي الحرب التي سُميت بـ «حرب سي إن إن»، لكونها الحرب الأولى في التاريخ البشري التي تُنقل على الهواء مباشرةً بفضل تلك الشبكة الإخبارية، التي أحدثت بذلك ثورةً غير مسبوقة في عالم الإعلام، حيث أضحى بوسع المرء أن يشاهد الصواريخ وهي تنهمر على المدن كأنه يتابع فيلم تشويق، ويستمع إلى صفارات الإنذار كما يستمع إلى السيمفونيات الموسيقية.
 
من «الدرة» إلى «أبو غريب»
وفي العام 2000، عادت الصورة لتصنع «مجداً سياسياً» ذا تداعيات عسكرية، حيث التقط مصور يعمل في وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب)، الصورة الشهيرة للطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي قتلته القوات الإسرائيلية بدم بارد في مشهد لا يُنسى مع اندلاع «انتفاضة الأقصى».
كان الطفل محمد الدرة يحاول الاحتماء بوالده من قصف القوات الإسرائيلية، لكن الرصاص طاله وأرداه قتيلاً، وظلت الصورة تؤرق الضمير العالمي، وتؤثر في الرأي العام الدولي، بشكل كبّد الجانب الإسرائيلي خسائر معنوية وأخلاقية فادحة، وسجل في مسار الصراع تغييراً فارقاً.
 
لقد تركت صورة «الدرة» وحدها أثراً يمكن أن يعادل ما تركته الصور المرعبة لمذبحة «صابرا وشاتيلا»، التي وقعت في يونيو 1982 أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وهكذا فعلت صور «أبو غريب»، رغم عدم انطوائها على القتل والتمثيل بالجثث. يبدو أن المسألة تتعلق أيضاً بالقدرة على ترويج الصورة عبر وسائط التواصل النافذة الجديدة، وبالقابلية الأوسع للتعرض، وأيضاً بالطرق الحديثة لاستخدام المؤثرات المصاحبة.
الأمر ذاته تكرر في العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، حيث لم ينجح التعتيم الإعلامي الذي فرضته تل أبيب في إخفاء بشاعة القصف، التي ظهرت جلية في مجموعة من الصور، التي وضعت قيوداً معنوية عديدة على الفعل العسكري الإسرائيلي، وشكلت طاقة حشد وتعبئة قوية للمقاتلين أو داعميهم أو المتعاطفين معهم، وبعضهم في مراكز تسمح له بصنع قرارات تؤثر في موازين القوى على الأرض.
 
الصورة والصراعات الداخلية
لكن الأمور بدأت تأخذ منحى جديداً اعتباراً من العام 2009؛ إذ يمكن اعتبار أن هذا العام شهد تحولاً جوهرياً في مسار استخدام الصورة في الحروب والنزاعات.
اعتباراً من هذا العام لم تعد الصورة سلاحاً ثانوياً، يُحدث أثراً جانبياً في معنويات الجانبين المتصارعين، أو يؤثر في النظرة الأخلاقية لمواقف كل منهما فقط، لكنها باتت أيضاً «أحد أسلحة الميدان الرئيسة»، ويمكن القول أيضاً إن الجيوش المنخرطة في المعارك، والأطراف المشتبكة في النزاعات، باتت تعد له، وتخطط، وتفرز الموارد، لضمان تفعيله بأكبر صورة ممكنة.
 
وفي هذا العام أيضاً تكرس وضع الصورة كوسيلة للتأثير في الصراعات الداخلية، بعدما غابت تماماً عن التأثير في أحداث «حماة» السورية في مطلع ثمانينيات القرن الفائت، وميدان السلام السماوي، بالصين، في مطلع التسعينيات اللاحقة.
ويمكن القول إن الصورة في النزاع الدائر في سورية راهناً تلعب دوراً كبيراً يكافئ الدور الذي يلعبه أي سلاح من الأسلحة المادية التي يمتلكها أي من القوى المتقاتلة في هذا البلد.
فثمة آلاف الفيديوهات التي يتداولها النشطاء عن وقائع تلك الحرب الأهلية المدمرة، والتي تؤثر تأثيراً بالغاً في تقييم الأطراف المختلفة للقوى المتصارعة فيها، وبالتالي في السياسات التي تتخذ حيالها.
 
الهزيمة الأخلاقية
كانت الصورة حاضرة بقوة خلال الأحداث التي شهدتها مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وما تلاها من أحداث عنف واشتباكات متكررة.
وما زال كثيرون يذكرون صورة الفتاة التي لُقبت بـ «ست البنات» أو «صاحبة العباءة السوداء»، التي تم سحلها وتعريتها في ما عرف بأحداث «فض اعتصام مجلس الوزراء».
تصدرت صورة الفتاة المسحولة ذات النصف الأعلى العاري صحفاً رئيسة في العالم، وتم تداولها باعتبارها دليلاً على التعسف الذي تقمع به السلطات الاحتجاج، وقد كان لها أثر كبير في إضعاف حكم المجلس العسكري المصري الذي كان يحكم بوصفه سلطة انتقالية آنذاك.
 
عادت الصورة لتلعب دوراً مؤثراً مجدداً في الصراع الداخلي الذي شهدته مصر بعد إطاحة حكم مبارك. وفي عهد حكم «تنظيم الإخوان»، كانت صورة قمع المتظاهرين وقتلهم على أسوار قصر «الاتحادية» الرئاسي، في ضاحية مصر الجديدة، شرقي القاهرة، كفيلة بوصم حكم «الإخوان» بالعار.
تساعد الصورة، والإلحاح على عرضها، وتداولها على نطاق واسع، واستخدام حزمة عريضة من المؤثرات المصاحبة لها، في بلورة انطباع أخلاقي عن أطرافها، وكثيراً ما يتحول هذا الانطباع إلى جزء من الصورة الذهنية عن الأطراف الفاعلة. إن الصورة الذهنية عادة ما تتُرجم في مواقف وسياسات؛ وهو أمر يؤثر في حسم نتيجة أي نزاع.
 
«تكنيك» الاستخدام الميداني 
في أعقاب إطاحة حكم تنظيم «الإخوان» في مصر، كان مفتي البلاد الأسبق الشيخ علي جمعة يناقش رسالة جامعية في إحدى كليات جامعة القاهرة، حيث استهدفه طلاب من تنظيم «الإخوان» اعتراضاً على موقفه، الذي اعتبروه «مناهضاً للتنظيم ومحرضاً ضده».
كان الشيخ جالساً على المنصة الرئيسة يناقش الطالب صاحب الرسالة، حين هاجمه عدد من الشبان «الإخوان» الغاضبين، الذين كانوا يصرخون في وجهه، بذريعة أنهم خرجوا عن شعورهم لكونه عالم دين «تقاعس» عن نصرة حقوق قتلى فض تجمع «رابعة العدوية» الشهير.
 
لكن شاباً من هؤلاء كان يحمل في يده كاميرا فيديو يستخدمها المحترفون ويقترب من الشيخ ويوجه له السباب الحاد في ما يسلط عدسة الكاميرا عليه.
لقد كان جمعة يخضع لهجومين مباشرين في وقت واحد؛ الهجوم الأول يمثله السباب الحاد الذي يوجهه هذا الشاب، والهجوم الثاني يتجسد في الكاميرا التي يسلطها مهاجمه عليه.
أراد الشاب «الإخواني» إخراج الشيخ عن شعوره ووقاره، ومحاولة الرد على السباب والهجوم الذي يتعرض له، ثم اصطياد صوره وهو يشتم أو يضرب أو يحاول الدفاع عن نفسه، وتقطيعها وإجراء عمليات «المونتاج» اللازم عليها، ثم رفعها على «الإنترنت»، لتكون وثيقة ضد الشيخ وعنصراً من عناصر «حرب الصور» التي تشنها «الجماعة» على خصومها.
يعطينا المشهد السابق المثال الأوضح على أهم «تكنيكات» استخدام الصورة كأحد «أسلحة الميدان الرئيسة»؛ وهو «تكنيك» يتم استخدامه كل يوم تقريباً في النزاعات الدائرة في مشارق الأرض ومغاربها، حيث يضرب أحد الأطراف المتصارعة بسلاحه، ثم يبدأ في تسليط «الكاميرا» على الخصم، ليسجل ردة فعله، في صورة، سيتم «تقطيعها»، وتعميمها، بمصاحبة المؤثرات المناسبة لاحقاً، باعتبارها عنواناً على «عدوانيته»، و»غطرسته»، واستخدامه للعنف.
 
أصبح سلاح الصورة أحد أسلحة المعارك والنزاعات الرئيسة، بعدما ثبت أنه يحقق نتائج مبهرة، ربما تفوق ما تحققه نيران المدفعية وقصف الطائرات في أحيان كثيرة. 
ويمكن القول إنه، وبسبب هذه الأهمية المتزايدة، تُصطنع بعض المواجهات خصيصاً من أجل الصورة، وتراق دماء، وتزهق أرواح فقط من أجل التقاط الصورة، حتى إن بعض المنخرطين في الصراعات باتوا يفضلون تصوير زملائهم وهم يموتون عن التدخل لإنقاذهم من الموت، وهي مسألة تعكس اهتماماً كبيراً بسلاح الصورة، لكنها تجرده أيضاً من جزء كبير من أخلاقيته.
لقد هُزمت جيوش، واندحرت قضايا، وضاعت حقوق، وأُهرقت دماء، وسُلبت أرواح عديدة منذ فجر التاريخ من دون أن يعلم أحد، ومن دون أن يسجل أحد أسماء الضحايا أو جرائم المعتدين، وبالقطع، فإن معظم هؤلاء الأخيرين لم يتعرضوا يوماً للعقاب ولا للإدانة الأخلاقية.
الصورة اليوم تقلل من هذا الظلم، وتغير موازين المعارك، وتساند الضعفاء، وتحد من تجبر الظالمين، لكنها للأسف تُستخدم في بعض الأحيان في اصطناع مظلوميات زائفة، وفي تلطيخ سمعة أبرياء .
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره