مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-10-03

لماذا فشلت التدخلات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط؟

لاشك أن الفشل الذي يلاحق التدخلات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط ليس استنتاجاً تحليلاً يحتاج إلى براهين وشواهد بل هو واقع تقر به الدوائر السياسية في واشنطن، ويمكن الاشارة على سبيل المثال إلى ما كتبه بن رودس نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق أوباما، حيث كتب في مجلة “فورين افيرز” معتبراً أن ليبيا والعراق وأفغانستان والصومال كانت ستكون أفضل من دون التدخل العسكري الأمريكي.
 
بقلم: العقيد الركن/ يوسف جمعه الحداد
 
والسؤال الأكثر الحاحاً لدى الدوائر البحثية يتمحور حول عوامل فشل التدخلات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، وهنا يمكن الاشارة إلى عوامل عدة أولها غياب الفهم الدقيق للثقافة السائدة لدى المجتمعات، والتباين بين المجتمعات التقليدية في منطقة الشرق الأوسط ونظيرتها في الغرب، حيث تعتقد بعض النخب الأمريكية أن تطوير نظريات مثل الفوضى الخلاقة كأساس لإعادة بناء الدول وفق المبادىء والقيم الغربية يمكن أن ينجح في الشرق الأوسط، ولكن التجارب جميعها في هذا الشأن قد فشلت تماماً ولم تقترب من تحقيق أي نجاح بل ذهب بعضها في اتجاه معاكس ودفع بالدول إلى مستنقع الفوضى والعنف والاضطرابات والتشرذم الطائفي والمذهبي والعرقي وانهيار مفهوم الدولة تماماً والعودة إلى حاضنات وولاءات تم تجاوزها بشكل كبير مثل القبائلية والمناطقية والمذهبية، إذ لم يكن منطقياً أن تقوض أسس الدولة القومية التي لم تكن ثابتة بعد، وهنا يمكن مناقشة الرؤى الأمريكية الحالمة بشأن بناء ديمقراطية واقتصاد سوق وتجارة حرة وغير ذلك من دون مراعاة تأثيرات البيئة والتقاليد والثقافة السائدة في دول المنطقة ودراسة تأثير ذلك كله على الرؤى التي يطرحها مخططي السياسات الأمريكيين، ولو أخذنا مثال ليبيا حيث كان متوقعاً تحقيق انتقال سريع إلى دولة غنية بالنفط موالية للغرب، تصبح أيضا سوقا جاهزة لشركات الأسلحة الغربية، وبدلاً من ذلك، تحول الأمر إلى كابوس أمني ونقطة تمركز جديدة لتنظيمات الارهاب وتحولت ليبيا إلى ممر عبور للأسلحة للارهابيين في جميع أنحاء منطقة الساحل. وثاني هذه العوامل أن التدخلات العسكرية الأمريكية التي ترفع شعار إعادة بناء الدول وترسيخ الديمقراطية لم تنفق سوى مبالغ ضئيلة من جملة الانفاق العسكري لهذه التدخلات في تحقيق الهدف الرئيسي، أي في التنمية وبناء الدول؛ فعلى سبيل المثال تقول الاحصاءات أن الانفاق العسكري الأمريكي في أفغانستان والذي لامس سقف تريليون دولار لم ينفق منه سوى 130 مليار دولار، بينما ذهب الجزء الأكبر من الانفاق العسكري على احتياجات القوات الأمريكية، كما لم تنفق الولايات المتحدة سوى 10 مليارات دولار في مكافحة تجارة المخدرات في هذا البلد.
 
غياب الرؤية الاستراتيجية
والعامل الثالث الذي يفسر اخفاق التدخلات الأمريكية هو غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد ففي البداية تحدث القادة والرؤساء الأمريكيين عن السعي لإعادة بناء الدول وغرس الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان والقيم الغربية في هذه الدول، ثم عاد الرئيس جو بايدن ليتحدث بعد الانسحاب الأمريكي من افغانستان عن أن الولايات المتحدة لم تكن تستهدف بناء الدولة الأفغانية بل ذهبت لمكافحة الارهاب، والحاصل أن هذا الارتباك الاستراتيجي قد تسبب الاضرار بمصالح الولايات المتحدة وتراجع صدقيتها وأسهم في ايجاد مناطق ودول ضعيفة وهشة واتسعت رقعة الارهاب بشكل كبير وتحولت تنظيماته إلى فسيفساء تنتشر في مناطق جغرافية واسعة وبدلاً من وجود فراغ أمني في دولة واحدة مثل أفغانستان عام 2001، اتسع الأمر ليشمل بعد ذلك العراق وبعدها سوريا وليبيا. وهنا يمكن الاشارة إلى العامل الرابع في فشل هذه التدخلات وهو الخطأ في إدارة مايعرف بالربيع العربي عام 2001، حيث تبنت الولايات المتحدة الرؤية القائلة بالاعتماد على جماعات اعتبرتها نموذجاً للإسلام السياسي المعتدل كبديل لأنظمة الحكم القائمة، وكانت المحصلة فشل هذه الجماعات في إدارة الدول لافتقارها لخبرات الحكم والسياسة والانقسام الداخلي العميق حولها ما تسبب في منح الفرصة لقوى اقليمة توسعية للتدخل في شؤون جوارها الاقليمي كما حدث بالنسبة لليمن وسوريا على يد إيران، وكادت هذه الأخطاء تتسبب في كارثة اقليمية كبرى لولا نجاح الشعوب العربية في التخلص من قبضة حكم الجماعات المتطرفة كما حدث في الحالة المصرية في يونيو 2013.
 
وثمة عامل خامس ناتجم عن تجاهل واشنطن لحلفائها الاقليميين عند بناء ورسم السياسات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، فقد تسببت السياسات الأمريكية تجاه إيران طيلة العقدين الماضيين في اقتراب النظام الايراني من امتلاك أسلحة نووية فضلاً عن مراكمة ترسانة صاروخية متطورة قادرة على توجيه الضربات الدقيقة بعيدة المدى وبشكل يهدد القوات الأمريكية المتمركزة في منطقة الشرق الأوسط ما قاد بالنهاية الولايات المتحدة للتفكير في إعادة انتشار قواتها في دول مثل العراق، فضلاً عن تراجع قدرة الولايات المتحدة على لجم الاندفاع الاستراتيجي الايراني جراء اقتراب طهران من امتلاك قدرات تسليحية نووية. هناك عوامل إضافية أخرى تسهم في فشل السياسات الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط مثل سياسات الموائمة والمزاوجة التي تنتهجها واشنطن حيال بعض التنظيمات الارهابية مثل جماعة الإخوان المسلمين، حيث تتردد واشنطن في وضع بعض هذه التنظيمات على قوائم الارهاب لاعتقادها بأن ثمة مصالح وأهداف استراتيجية يجب الحفاظ عليها من خلال الابقاء على خيط رفيع من العلاقات مع قيادات هذه التنظيمات والجماعات، حيث تسببت سياسة امساك العصا من المنتصف في خسائر كبيرة للتدخلات الأمريكية، في سوريا والعراق وغيرهما. والمؤكد أن الولايات المتحدة تعاني فجوة بين الأفعال والأقوال، وقد تسببت هذه الفجوة في تراجع الثقة بينها وبين حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، والأمر هنا لم يقتصر على التخلي عن أنظمة حكم حليفة لواشنطن في عام 2011، ولكنه يمتد ليشمل عدم تنفيذ تعهدات متكررة مثل التصدي لأنشطة إيران التي تهدد الأمن والاستقرار الاقليمي في منطقة الخليج العربي، والمسألة لا ترتبط في هذه الحالة بتنفيذ أعمال عسكرية بقدر ما ترتبط بدعم قدرات الحلفاء التسليحية لمواجهة هذه التهديدات وبناء الردع وتوازن القوى اللازم لمواجهة الأخطار القائمة.
 
حسابات خاطئة
 وبجانب ماسبق، فإن مجمل عوامل الفشل السابقة يكمن في احساس الولايات المتحدة الزائد بالتفوق لدرجة الاقتناع بامكانية تصدير قيمها ومبادئها إلى مجتمعات ليست جاهزة لاحتضان هذه القيم والمبادىء وتطبيقها من دون التشاور والتنسيق مع حلفائها التقليديين، بالاضافة إلى أن ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة قد أسهم في افتقار هذه السياسات للدعم الرسمي من جانب دول المنطقة، فحين يصف الرئيس السابق دونالد ترامب قرار أسلافه بإرسال قوات إلى الشرق الأوسط بأكبر خطأ في تاريخ البلاد، تتراجع على الفور معدلات الثقة في قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بمكانتها ونفوذها في هذه المنطقة، فواشنطن تتصرف أحياناً وفق حسابات اقتصادية رقمية بحتى من دون أدنى اعتبار للحسابات الاستراتيجية، بمعنى أن وجود القوات الأمريكية في الشرق الأوسط يعد رمزاً لقيادة العالم، ولذا فإن الحديث عن مغادرة المنطقة كلياً يعني الكثير بالنسبة للقيادة الأمريكية عالمياً، والمسألة في هذه الحالة لا تقتصر على تراجع أسعار النفط، ومن ثم تراجع القدرات الشرائية لدول المنطقة من صادرات السلاح الأمريكية، فالشراكة ليست على المستوى التجاري ـ التسليحي فقط بل تمتد لتشمل مصالح متبادلة على الصعيد الأمني الاستراتيجي.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره