2023-08-03
مستقبل التوجهات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في ضوء استراتيجية الأمن القومي الجديدة
تكتسب استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي تصدر عادة عن الإدارات الأمريكية أهمية كبيرة؛ حيث تتضمن رؤى وإدراكات الرئيس للمصالح الأمريكية على مستوى العالم والتهديدات والمخاطر التي تواجه هذه المصالح وكيفية مواجهتها، لذلك فإنها تعبر من ناحية عما يمكن اعتباره بـ «الإدراك الثابت» للمصالح الأمريكية التي تتمتع بقدر، لا بأس به، من الديمومة والثبات، كما تعكس من الناحية الأخرى مفاهيم الرئيس وإدراكاته للمخاطر التي تهدد هذه المصالح وكيفية مواجهتها. هذه المفاهيم والإدراكات تتغير وتتبدل من رئيس أمريكي لآخر، ومن هنا يأتي التمييز بين كل وثيقة من هذه الوثائق.
بقلم: د. محمد السعيد إدريس
والوثيقة التي تضمنت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي صدرت في أكتوبر 2022 عن إدارة الرئيس الأمريكي «جو بايدن» تأخرت ما يقرب من عام ونصف العام. هذا التأخير له دلالاته. فإذا كان هناك من يبرر هذا التأخير بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها، فإن هذا التأخير مفعم بالتردد وتدني الثقة في الرؤى والسياسات، وضبابية ما يمكن اعتباره «خريطة طريق» لإدارة «جو بايدن» حول أبرز السياسات والتوجهات التي من المفترض أن تلزم بها إدارة «بايدن» نفسها أمام الكونجرس وأمام الشعب الأمريكي.
هذا التأخير، أو التردد في صياغة ونشر استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لإدارة «جو بايدن» التي يتولى إعدادها كبار المسؤولين والخبراء والمستشارين في الإدارة، يعبر عن «غياب اليقين» لدى هذه الإدارة في قراءة الواقع الدولي بحقائقه الجديدة، وربما تُعبِّر عن رفض الرئيس وكبار مستشاريه للاعتراف بهذا الواقع، الذي ربما يكون مريرًا، ومن هنا كان التأخير، ومن هنا أيضًا كان الإصرار على مواصلة توجهات «الاستعلاء» الأمريكية، وتكرار الحديث عن «حاجة العالم للقيادة الأمريكية».
فقد نصّت الاستراتيجية التي نشرت في 12 أكتوبر 2022، وجاءت في 48 صفحة على التركيز على ما أسمته بـ «العقد الحاسم» وتقصد عقد العشرينيات من هذا القرن (2020 - 2030) «من أجل تعزيز المصالح الحيوية للولايات المتحدة وتمكينها من التفوق على منافسيها الجيوسياسيين، والتصدي للتحديات المشتركة، ووضع العالم بثبات في طريق يسير نحو غدٍ أكثر إشراقًا وتفاؤلاً». لكنها نصت أيضًا على أن «حاجة العالم للقيادة الأمريكية كبيرة كما لم تكن في أي وقت مضى، وأن الولايات المتحدة تخوض حاليًا منافسة استراتيجية كبيرة لتشكيل النظام الدولي».
وإذا كانت الاستراتيجية قد ركزت بدرجة كبيرة على الداخل الأمريكي وحددت ثلاثة محاور للنهوض بهذا الداخل لخصتها في: حماية أمن الشعب الأمريكي، وتوسيع الازدهار الاقتصادي والفرص، وتكريس القيم الديمقراطية في قلب أسلوب الحياة الأمريكية والدفاع عنها، فإنها وعلى صعيد السياسة الخارجية اعتبرت أن الصين هي التحدي الأكبر والأكثر خطورة «حيث تمتلك النية، وبشكل متزايد، على إعادة تشكيل النظام الدولي لصالح نظام يميل لصالحها، أما روسيا، فهي، في منظور هذه الاستراتيجية تحظى بالمرتبة الثانية كمركز للخطر من منظور «تهديداً للأمن والاستقرار الأوروبي، والأمن النووي العالمي»، ومن هنا كان التوجه الاستراتيجي الأمريكي لتأسيس «شبكة من التحالفات والشراكات في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي» لتضخيم قدرة الولايات المتحدة على مواجهة التحديات والتهديدات. أما الاهتمامات الأخرى فقد انحصرت في التركيز على ثلاثة تحديات اعتبرتها الاستراتيجية «عابرة للحدود» مثل: الأوبئة، والتغيرات المناخية، والإرهاب. وبشكل عام ركزت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لإدارة الرئيس «جو بايدن» على أولوية الصين ودول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلى جانب تسليط الضوء على السياسة الصناعية بوصفها أداة أمن قومي محورية، وتضمنت تفصيليًّا الموقف الأمريكي من تايوان، وشددت على التمييز بين الحكومة الصينية والشعب الصيني، وعلى أن التشديد المستمر على بلدان منطقة المحيطين الهندي والهادئ وعلى الصين في شتى أقسام استراتيجية الأمن القومي يعتبر علامة فارقة على أن الإدارة الأمريكية «لن تسمح بأن تعصف أزمات أخرى بهذه الأولويات الاستراتيجية والتنافس مع الصين».
وهكذا نستطيع أن نقول إن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية تركز على منطقتين محوريتين في العالم هي منطقة المحيطين الهندي والهادئ وفي القلب منها الصين، وعلى أوروبا وبالتحديد على روسيا وما تمثله من تهديد للأمن والاستقرار الأوروبي وخطر التهديدات النووية الروسية على الأمن العالمي والتداعيات المحتملة للأزمة الأوكرانية على مستقبل النظام العالمي.
أين إقليم الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية؟
على النحو السابق قد يتبادر إلى الذهن هامشية إقليم الشرق الأوسط في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، فهذه الاستراتيجية لم تتضمن نصوصًا واضحة حول مركزية أو أولوية ما لإقليم الشرق الأوسط الاستراتيجية، لكن التطورات الجديدة التي فرضت نفسها على إقليم الشرق الأوسط أعادت للإقليم مكانته المهمة ضمن منظومة الأولويات والمصالح الأمريكية.
إن العداءات الأمريكية مع بعض الأطراف الشرق أوسطية وبعض فصائل وتنظيمات الإسلام السياسي، وما تصفه الولايات المتحدة بالإرهاب، ظلّت لسنوات تفرض التزامات وضمانات أمريكية لهؤلاء الحلفاء الاستراتيجيين من ناحية، كما ظلّت تفرض سياسات مواجهة مع من تعتبرهم واشنطن أعداء مؤكدين أو محتملين. وإذا كانت أهمية المنطقة قد تراجعت جزئيًا بسبب تراجع أولوية النفط العربي للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بعد أن تحولت الولايات المتحدة إلى دولة مصدرة للنفط، فإن التطورات الجديدة، خاصة ضمن تداعيات الحرب الأوكرانية وما يمثله النفط والغاز العربيين من أسلحة مهمة تريد الولايات المتحدة توظيفها ضد روسيا ولصالح أوروبا عادت أهمية المنطقة مرة أخرى للدرجة التي أجبرت الرئيس الأمريكي «جو بايدن» للقيام بجولة شرق أوسطية وزيارة المملكة العربية السعودية بعد دعم السعودية لقرار تخفيض إنتاج النفط الصادر عن منظمة «أوبك - بلس» الذي اعتبرته واشنطن دعمًا سعوديًا وخليجيًا للسياسة الروسية .
هناك عاملان آخران عظما مجددًا من أهمية إقليم الشرق الأوسط بالنسبة للسياسة والمصالح الأمريكية لم تعيرهما استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة الأهمية التي يستحقانها مع العامل الأول: هذان العاملان هما الدخول الصيني القوي إلى الشرق الأوسط، وتوجهات التحالفات الاستراتيجية لبعض الدول الشرق أوسطية مع روسيا. فإذا كان العامل الأول يلزم الولايات المتحدة بتبني سياسات للمحافظة على مصالحها الاقتصادية وتحالفاتها وشراكاتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط فإن العاملين الآخرين يلزمان الولايات المتحدة بتكثيف تواجدها في الشرق الأوسط لاحتواء محاولات التغلغل وتوسيع مناطق النفوذ الصينية والروسية في الإقليم.
فإقليم الشرق الأوسط أخذ يشهد تحولات مهمة بعضها جاء ضمن أصداء الحدث الهائل المتمثل في التحدي الروسي غير المسبوق للولايات المتحدة بالدخول عسكريًا إلى أوكرانيا (2022/2/24)، الذي جاء بمثابة «انقلاب روسي على نظام القطب الواحد، ومن ثم تزعزع المكانة الأمريكية عند الحلفاء في الشرق الأوسط، وبعضها الآخر جاء نتيجة تراجع ثقة الحلفاء في وفاء الأمريكيين بالتزاماتهم الأمنية نحوهم، على نحو ما تكشف من ضعف رد الفعل الأمريكي على التهديدات التي تعرضت لها مصافي أرامكو النفطية السعودية بسبب القصف الصاروخي من جانب (الحوثيون)، ولذلك شهد عام 2022 تمرد عدد من الدول الشرق أوسطية على الزعامة الأمريكية.
هذه العوامل الثلاثة من شأنها أن تفرض نفسها على مخططي السياسة الخارجية الأمريكية لتجديد مركزية مكانة إقليم الشرق الأوسط في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وقد عبرت عن هذا التوجه بوضوح شديد الدراسة الصادرة عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحت عنوان «التعامل مع الوجود الأمني للصين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» فقد أعطت هذه الدراسة أهمية لثلاث مسائل اعتبرتها محورية رأت أن الولايات المتحدة أن تعطيها أولوية ضمن أجندة مصالحها الاستراتيجية. الأولى: سيطرة الدعوة التي تقول إن الولايات المتحدة باتت تنسحب من إقليم «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» وطالبت الدراسة بتكذيب هذه الدعوة وتفنيدها بالأفعال وليس بالأقوال فقط. والثانية: التنامي العسكري والأمني للصين في الشرق الأوسط، والثالثة: تحول الشركاء، وعلى رأسهم حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة نحو التعاون العسكري مع الصين (سواء عبر مبيعات السلاح الصيني المتطور إلى دول بالمنطقة أو بالمناورات البحرية المشتركة). وحذرت الدراسة من أن دول الشرق الأوسط سوف تسعى إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين، وأن الوجود الأمني المتزايد للصين في المنطقة سوف يشكل معضلة للولايات المتحدة في علاقاتها مع شركائها، الأمر الذي يفرض على الولايات المتحدة الاجتهاد في تبنى سياسات يكون في مقدورها إعادة كسب الحلفاء واحتواء أي نفوذ للصين أو روسيا في الشرق الأوسط.
تحديات شرق أوسطية للسياسة الأمريكية
السؤال المباشر لهذه التوصية هو: هل تستطيع الولايات المتحدة ذلك؟ وهل لديها العزم والإرادة الكافية لتبني سياسات يكون من شأنها استعادة كسب ثقة الحلفاء؟ وهل يمكن لواشنطن التصدي للتيار المتنامي المناوئ للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الذي تدعمه روسيا والصين؟ وأين إسرائيل من هذا كله؟ هل تستطيع الولايات المتحدة موازنة سياساتها مع إسرائيل والعرب؟
الأمر المؤكد أن التحديات باتت ضخمة أمام السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على ضوء ثلاثة عوامل:
العامل الأول: أن دول الشرق الأوسط ليست مغيبة عن الوعي بحقائق التطورات العالمية، وخاصة ما يتعلق بالصراع الدائر على قمة النظام العالمي بين كل من الصين وروسيا من ناحية وبين الولايات المتحدة من ناحية أخرى، وهو الصراع الذي يتجه، وفق الكثير من المؤشرات لصالح محور الصين- روسيا الذي يكبر ويتأكد يومًا بعد يوم على نحو ما تكشف من معلومات عن «القمة التليفزيونية» التي عقدت بين الرئيس الصيني «تشى جين بينج» والروسي «فلاديمير بوتين» يوم الجمعة (2022/12/30)، واتفاق الزعيمين على مواصلة تكثيف التعاون بينهما وفقًا لاتفاق الشراكة الاستراتيجية بينهما، وقبول الرئيس الصيني دعوة نظيره الروسي القيام بـ «زيارة دولة» إلى موسكو في الربيع المقبل، وتأكيد الزعيمين عزمهما على «تعزيز التعاون بين القوات المسلحة لروسيا والصين، وإعلان الصين، عقب القمة، عبر إعلامها أنها «مستعدة للعمل مع روسيا وجميع القوى التقدمية في جميع أنحاء العالم لمواجهة القطب الواحد (أمريكا) والحمائية والترهيب».
حقائق التطورات العالمية عبرت عنها بوضوح شديد صحيفة «لوبوان» الفرنسية بأن «العالم يميل نحو الشرق، وستحكمه آسيا غدًا أو بعد غد، ولن يكون أمام الغرب سوى التكيف، خاصة أن الأزمة الحالية أدت إلى ظهور قطبين متعارضين هما الولايات المتحدة، التي لا تزال سيدة الغرب المتداعي، وآسيا التي يجسدها محور موسكو بكين الذي أصبح أقوى».
العامل الثاني: جدية العزم والمساعي الصينية والروسية على توسيع مناطق النفوذ وتأسيس شراكات اقتصادية واستراتيجية مع كبرى الدول الإقليمية الشرق أوسطية. هذه الجدية تكشفت خلال القمم الثلاث التي شارك فيها الرئيس الصيني بالمملكة العربية السعودية (9-8 /12/ 2022): القمة الصينية - السعودية، والقمة الصينية - الخليجية، والقمة الصينية- العربية.
فقد اعتبر الرئيس الصيني «تشى جينج بينج» أن «قمة الرياض العربية - الصينية للتعاون والتنمية» هي حدث مفصلي في تاريخ العلاقات بين الجانبين، وأنها ستقود العلاقات والتعاون بين الصين والدول العربية نحو مستقبل أجمل»، وأكد في الكلمة نفسها التمسك بالاستقلالية وصيانة المصالح المشتركة، مشددًا على دعم جهود الدول العربية «لاستكشاف طرق التنمية التي تتماشى مع ظروفها الوطنية، والتحكم في مستقبلها ومصيرها» ما يعنى أن هذا النموذج الجديد من الشراكة الصينية مع العرب لا يقوم على فرض الوصاية والهيمنة، كما هي الحال في نموذج الشراكة الأمريكي خاصة والغربي عامة، ولكن هذا النموذج الصيني للشراكة المقترحة مع العرب - كما أكد الرئيس الصيني - يقوم على احترام الإرادات والخصوصيات العربية.
وختامًا، هذا المأزق سيبقى حائلاً دون نجاح الولايات المتحدة في كسب المنافسة مع الصين وروسيا في الشرق الأوسط، وستبقى قدرة الولايات المتحدة على استعادة النفوذ في الشرق الأوسط غير محسومة، خاصة في ظل محدودية وربما غياب اكتراث استراتيجية الأمن القومي الأمريكية بالشرق الأوسط، مقارنة بمنطقتي المحيطين الهندي والهادئ على نحو ما ركزت تلك الاستراتيجية.
لا يوجد تعليقات