مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-11-11

مفهوم الاستراتيجية العسكرية .. تعريفها، أهدافها، مجالاتها

لم يستقر الرأي عبر مختلف العصور على تعريف موحد وجامع لكلمة « استراتيجية » إذ خضع مفهومها وتعريفها لمدى تطور التقنيات العسكرية خاصة في مجال التسلح البري والجوي والبحرى والدفاع الجوي، وأسلحة الإشارة والإمداد والتموين والصناعة العسكرية وسلاح المهندسين .. كما ارتبط بتطور الاتجاهات الفكرية والسياسية الدائمة التغير والتقلب وبالتقدم المطرد في قوى الانتاج الصناعي وازدهار العلوم التطبيقية .
 
 
  صبحة بغورة
 
وبرغم ذلك بقيت تعني على العموم « فن قيادة القوات » وهي إلى جانب وصفها بالفن الذي يحتاج بداهة إلى مهارة خاصة في الممارسة وموهبة فذة وحدس وعبقرية ، فهي كذلك علم لأنها تستند إلى قواعد في التطبيق العملي وإلى نظريات علمية تشكل ملامحها وتحدد طبيعة علاقاتها فترسم بموقعها الصورة المجسدة لمحددات العلاقة بين شؤون الدفاع الوطني والسياسة الخارجية للدولة،  وعندما بدأت دراسة الاستراتيجية بصورة علمية، بدأت دراسة الحرب عل أسس علمية ، ومنها جرى تعريفها بأنها «نظرية استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف معين « وهذا المفهوم وضع على أساس ، مفهوم الحرب أنها « استمرار للسياسة بوسائل أخرى “ وتكون بهذا الاستراتيجية هي “ النظرية  التي تدار بها المعارك في صورتها العامة لتحقيق الهدف السياسي للحرب “ وعليه نلاحظ  كيف أثر تطور الفكر الإنساني على تطور النظرة إلى مفهوم الاستراتيجية العسكرية من مجرد النظرة الضيقة المقتصرة على قيادة القوات على الأرض ، إلى ربطها بهدف معين يراد تحقيقه، ثم إلى اعتبارها وسيلة وجزء في إطار جهد سياسي عام . 
إلا أن ذلك شابه انتقاد بأنه يكاد يلامس حدود المجال السياسي، وأنه تضمن خلطا كبيرا لا مبرر له  بين الاستراتيجية العسكرية و الاستراتيجية العليا للدولة، فقدم الفكر العسكري تعريفا خاصا أنه « فن توزيع واستخدام مختلف الوسائل العسكرية لتحقيق هدف السياسة “ أي أن الهدف من الاستراتيجية ليس البحث عن المعركة في حد ذاتها بل البحث عن وضع استراتيجي ملائم لمعركة تأتي بعده وتنتزع النصر وعليه تم التأكيد على أن الاستراتيجية هي « فن حوار الإرادات التي تستخدم القوة لحل خلافاتها « هذا التعريف يفترض أن هناك وسائل أخرى في ظروف معينة تؤدي إلى تحقيق هــدف الاسـتراتيجيــة بدون اســتخدام القوة العسكريــــة بصـــورة مباشرة، ولكن ظلت النظرة للإســتراتيجيـــة العسكريـة محصـورة في أنها قتال فقط  تؤكـد أنه « حيثما كانت حرب، يوجد وضع كلي للحرب، وإن دراسة القوانين الموجهة للحرب والتي تحكم في وضعها الكلي، هي مهمة الاستراتيجية « وأدت تطورات الأوضاع العالمية نهاية الخمسينات الماضية من القرن العشرين تعريف للإستراتيجية بأنها « فن وعلم استخدام القوات المسلحة للدولة بغرض تحقيق أهداف السياسة القومية عن طريق القوة أو التهديد باستخدامها “ ويقدم الفكر العسكري تعريفا لها مطولا بأنها عبارة عن “ نظام المعلومات العلمية حول القواعد القياسية للحرب كصراع مسلح يخدم مصالح طبقية معينة ، وعلى أساس دراسة خبرة الحروب والموقف العسكري السياسي، والإمكانيات الاقتصادية والمعنوية للدولة ، والوسائل الجديدة للصراع المسلح ونظرات العدو المحتملة ، تقوم الاستراتيجية بدراسة أحوال وطبيعة الحرب المقبلة، وفي الوقت نفسه هي ميدان النشاط العملي للقيادة السياسية ـ العسكرية العليا ، وقيادة أركان الحرب الجيوش الذي يهدف إلى تجهيز الدولة والقوات المسلحة للحرب وإدارة الصراع المسلح في ظروف تاريخية معينة . ويبدو مما سبق ان القاسم المشترك بين التعريفات المختلفة للإستراتيجية هو «أنها علم وفن يهتمان بالخطط والوسائل التي تعالج الوضع الكلي للصراع الذي تستخدم فيه القوة بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل تحقيق هدف السياسة الذي يتعذر تنفيذه بغير ذلك السبيل .” 
 
 
يكشف استقراء أحداث التاريخ العسكري أن الاستراتيجية العسكرية تستند إلى مجموعة من القواعد التي تحكمها يمكن إيجازها في ، المحافظة على حرية العمل والحركة، الاقتصاد في القوى، التمتع بميزة المباداة وتحقيق المفاجأة ، قوة الحشد والتعبئة المناسبة للحدث مع ضمان خفة وسهولة الحركة ، وضع مخطط استراتيجي واضح وبسيط ، تحقيق التعاون الفعال بين الإدارات العسكرية والتنسيق بين أداء الأسلحة، توحيد القيادة العامة، وهذه القواعد العامة للإستراتيجية يمكن تكثيف الاهتمام بها كلها او ببعضها على حساب اخرى تبعا لظروف التطبيق العمـلي ووفقــا لاخــتلاف لطرق إدارة الحرب وتطور وسائل استخدام المعدات وكيفية تحريك تشكيلات القتال كلها اعتبارات ترتبط بشكل مباشر بمستوى تطور النشاط الاقتصادي والتقني والعملي، هذا ما يبرر لماذا كان لكل عصر طريقة خاصة في إدارة الحرب، وإذا كانت الوسائل العسكرية تختلف في نوعيتها ، فإن طبيعة المخططات الإستراتيجية ستختلف مـن دولـــة لأخـــرى ومــن وقت إلى آخر رغم  وحدة المبـادئ الأسـاســـية التي تحكمها وذلك أيضا تبعا لظـروف الزمــان والمكــان وأهميـــة الهـدف وطبيعــة الظــــروف الدوليـــة، ومــدى اتساع مجال حرية العمل المسلح  كالمناورة بالقــوات وغيرهـا، وعلى ما سبق ونتيجة هذه الاختلافات والتباينات في طبيعة الظروف المحيطة بوضع وتنفيذ الإستراتيجية العسكرية فقد يكون هدف الإستراتيجية المطبقة إفناء وتدمير سريع بعمل خاطف ، أو إنهاك واستنزاف طويل الأمد .
 
 
ترتبط الإستراتيجية الناجحة بعلم التكتيك العسكري باختيار تكتيكات عملية ملائمة و بإتباع أصول فن قيادة عمليات سليم على اعتبار أنهما أداتها في تنفيذ خططها على مدى أوقات القتال ،وأيضا بالسياسة لأنها تستهدف أصلا تحقيق أهداف سياسية ،  وترتبط ايضا بالظروف الاقتصادية المرافقة للصراع المسلح خاصة في مجالات الصناعة والطاقة والموارد البشرية والطرق والنقل والمواصلات ، فمضمون الاستراتيجية يتحدد بتأثير الاعتبارات السياسية والمعنوية  والعوامل الاقتصادية والجغرافية والتاريخية التي تحكم الصراع القائم ، كما يتحدد بطبيعة الحرب الدارة أو المتوقعة واحتمالات تطورها وتوسعها والطرق الممكنة لإدارتها في ظل تكتيكات العدو ، ومن هنا نلاحظ عدم إمكانية بقاء الاستراتيجية العسكرية ثابتا بدون تغيير خاصة في ظروف الحرب ولكنه يتغير تبعا لتغير الظروف وحجم الإمكانيات المادية المتوفرة فعلا .
 
 
تعتبر القوة العسكرية عاملا واحدا من عوامل الاستراتيجية العليا التي تستخدم قوة الضغط السياسي والدبلوماسي والمالي والتجاري لتحطيم إرادة الخضم، وعليه فمدى الاستراتيجية العسكرية محدودا في تحقيق النصر العسكري في الحرب نفسها ،بينما الاستراتيجية العليا تنظر إلى السلم الذي يعقب الحرب ولا تكتفي بوضع التوافق بين مختلف و وسائل الحرب موضع التنفيذ بل تنظم استخدامها بما لا يضر بجهود تثبيت السلم بين الطرفين المتحاربين . إذن يمكن القول أن فن إعداد الحرب بهدف تحقيق النصر لا يتعارض مع الرؤية لبناء السلم والاجتهاد في رسم ملامحه وضماناته .
 
 
تشكل استراتيجية التسلح والحشد الصورة المجسدة للعلاقة بين الدفاع الوطني والسياسة الخارجية ، فالتسلح الحديث ضرورة لاستكمال قدرة الدولة على مواجهة أي عدوان عسكري وعلى مواصلة تأمين وحماية حدودها وشعبها وثرواتها وهو واجب تقتضيه مهام الدفاع الوطني وحق يحميه القانون  ،ومن أفضل شروط تحقيق التوفيق بين السياسة الخارجية والدفاع الوطني امتلاك قدرات صناعية كبيرة وموارد اقتصادية ومالية متنوعة وكفاءات تقنية مناسبة وذلك تقليص حجم التبعية ودرجة الاعتماد على الآخرين ، وعندما يصبح التسلح نشاطا اقتصاديا وطنيا متناسبا مع القدرات الفعلية للدولة ومتكاملا مع باقي الصناعات تكون الأمة قد ثبتت أقدامها عمليا في مواقع القوة وحرية التحرك والعمل .
 
 
  استراتيجية الحرب المحدودة وحرب المعنويات 
ظلت الحروب على مر العصور تتسم بسعي الأطراف المتحاربة إلى تحديد الجهد العسكري إلى الحد الأدنى اللازم لحسم الحرب وهو ما يسمى بالحرب المحدودة والمبدأ الأساسي فيها هو أنها محدودة ماديا وغير محدودة نفسيا ومعنويا وتستهدف تبديل قناعة الخصم وإلحاق الهزيمة به معنويا بدلا من الانتصار علية عسكريا ، ولكن مع ذلك يمكن تصعيدها ولكن بأشكال أخري غير عسكرية، ولم يجر تصعيد الحرب إلا عندما يبدو أن الحسم بالوسائل المحدودة غير ممكن عمليا، وحتى هذا التصعيد كان محكوما بعد تجاوز سقف معين محدد الذي يغدو فيه العمل العسكـــــري غـير متناسب مع حجم وطبيعة الهدف السياسي المراد تحقيقه وفي حالة نجاوز هذه العتبة تتعرض البشرية لمآسي وكوارث كما وقع في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي عصرنا الحديث برز معطى آخر ترك بصمته على معدي الاستراتيجيات العسكرية وهو السلاح النووي وباقي أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الجرثومية والكيميائية وغيرها التي تنذر بما يسمى الانتحار المتبادل بين  المتصارعين وأدى هذا الوضع إلى تطور الاستراتيجية العسكرية نحو المواجهات المحدود أو شبه المحدودة لن التصعيد بالأسلحة النووية مستحيلا وجنونيا .
 
 
يمكن القول أن الاستراتيجيات التقليدية السابقة كانت استراتيجيات عسكرية مباشرة تبحث عن الحسم النفسي عن طريق استخدام الوسائل الحربية، اما استراتيجية الحرب المحدودة فهي استراتيجية عسكرية غير مباشرة تبحث عن الحسم النفسي عن طريق استخدام الوسائل النفسية الإشاعة والأخبار المضللة والدعية الكاذبة والضغط الدولي وتفتيت الجبهات الداخلية بالفتن الطائفية والعرقية والمذهبية والحزبية .
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره