مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2023-04-02

هل يشهد العالم حربًا باردة جديدة؟

بعد سنوات من تلاشي الأحادية القطبية التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تتربع على عرش النظام الدولي، وصعود عدد من القوى الدولية التي تتبنى رؤية تعديلية أو تصحيحية  (Revisionist power)، تهدف صراحةً إلى تغيير هيكل موازيين القوى السائد في النظام الدولي منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، والتي استطاعت أن تجعل من نفسها فاعلًا مؤثرًا لا يمكن تجاوزه في السياسة الدولية، أضحى الحديث عن إمكانية نشوب حرب باردة جديدة يتجدد مع كل أزمة دولية تتفجر بين طرفين، أحدهما من القوى الدولية الصاعدة المحسوبة تقليديًّا على المعسكر الشرقي، كروسيا والصين، وثانيهما من القوى الدولية المحسوبة تقليديًّا على المعسكر الغربي الذي تتصدره الولايات المتحدة الأمريكية.
 
بقلم: أ. هديـــر مصطفى 
 
وفي ضوء تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية العالمية مؤخرًا نتيجة لاستمرار الأزمة الروسية الأوكرانية، وتأجج التنافس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ «الإندو باسيفيك»، يسعى هذا المقال إلى تفنيد الجدلية الخاصة باحتمالية نشوب حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
 
أولًا: الصين وروسيا.. مدى التحول في موازين القوى
قياسًا على نظرية تحول القوة (Power Transition) التي أشار إليها «أورجانسكي» (Organski) للمرة الأولى عام 1958 في كتابه «السياسة العالمية» (World Politics)، والتي تقدم عدة معايير يمكن على أساسها اختبار القوة الكافية لدولة صاعدة في النظام الدولي، ومدى قدرتها على إزاحة دولة أخرى مهيمنة في هذا النظام، بصرف النظر عما إذا كان ذلك من خلال الصدام والمواجهة العسكرية المباشرة عبر الحرب، أو كان ذلك من خلال تحول سلمي بشكل أقرب إلى انتقال القوى خلال عصر الإمبراطوريات. سيتم التركيز على عدة مؤشرات يمكن على أساسها الكشف عن مقدار التحول في موازين القوى لصالح الصين وروسيا، وما إذا كانتا تمثلان «تحديا حقيقيا» لمكانة الولايات المتحدة الأمريكية ونفوذها على الساحة الدولية، وذلك على النحو التالي:
 
أ‌. مؤشرات تقليدية
المقصود هنا المؤشرات الملموسة التي يمكن قياسها بصورة كمية، ومن ثمَّ المقارنة على أساسها، كحجم القوة البشرية في الدولة، وحجم القوات المسلحة، والناتج المحلي الإجمالي. 
وللوقوف على صورة كلية شاملة في هذا الصدد بشأن القوى الثلاث الرئيسة التي يتناولها التحليل، فسيكون من الأهمية بمكان التطرق إلى نتائج مؤشر القوة العسكرية العالمي «جلوبال فاير باور» (Global Fire Power)، وذلك في نسخته الأخيرة للعام الجاري 2023. إذ تكمن أهمية هذا المؤشر على وجه الخصوص في كونه يقدم نظرة فاحصة شاملة بشأن حجم المقدرات العسكرية التي تمتلكها الدول حول العالم، وذلك من خلال عدة مؤشرات فرعية، هي: القوة الديمغرافية للدولة (عدد السكان)، وحجم قواتها البرية، والجوية، والبحرية، ومقدار ما تمتلكه الدولة من موارد طبيعية استراتيجية (كالموقع الجغرافي، والاتصال بالممرات المائية الدولية)، إلى جانب المقدرات المالية للدولة، وبنيتها التحتية اللوجستية. وبناءً على هذه المؤشرات مجتمعة، تتحدَّد درجة الدولة النهائية وترتيبها في المؤشر، بحيث تكون الدرجة المثالية للدولة هي الأقرب إلى الصفر. والجدير بالذكر أن المؤشر لا يحتسب القوة النووية ضمن مؤشرات القدرات العسكرية للدول المدرجة في تصنيفه.
 
وحول نتائج المؤشر، فقد حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على صدارتها في قمة التصنيف ضمن أقوى جيوش العالم لعام 2023، وذلك من بين 145 دولة شملها المؤشر بدرجة قدرها (0.0712)، تلتها مباشرةً روسيا التي جاءت في المرتبة الثانية بالمؤشر بدرجة قدرها (0.0714)، وحلَّت الصين في المرتبة الثالثة بدرجة قدرها (0.0722). وبالنسبة للصين على وجه الخصوص، فقد رجَّح المؤشر احتمالية صعودها إلى المرتبة الثانية، بالنظر إلى التطورات المتسارعة في مقدراتها العسكرية، البحرية والجوية والبرية، إلى جانب ما تتمتع به البلاد من ريادة ديمغرافية باعتبارها الأولى عالميا من حيث عدد السكان (نحو 1.4 مليار نسمة) ، فضلًا عن الإمكانيات الاقتصادية الضخمة التي تحظى بها باعتبارها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم.  ووفقًا للمؤشر، فإذا استمرت الاتجاهات الراهنة لبكين، فإنها ستصبح الخصم العسكري الرئيس للولايات المتحدة عالميًّا. 
 
ب‌. مؤشرات غير تقليدية
هذه المؤشرات تنعكس في حجم القوة الناعمة التي تحظى بها الدولة، بمعنى مدى جاذبية النموذج الأيديولوجي والثقافي الذي تتبناه الدولة بالنسبة للدول الأخرى حول العالم، ومدى القبول الذي تحظى به سياساتها بالنسبة للدول الأخرى. ورغم أنه لا خلاف على أن قوتين دوليتين بحجم الصين وروسيا تمتلكان -بلا شك- من التراث التاريخي والثقافي ما يجعلهما محل تقدير وإعجاب من جانب قاعدة شعبية ليست بالقليلة حول العالم، فإن الوقوف على تقدير دقيق في هذا الصدد يستدعي الإشارة إلى تصنيف واضح للدولتين مقارنة بالولايات المتحدة في إحدى المؤشرات الدولية الخاصة بالقوة الناعمة للدول. 
 
 
وعلى هذا النحو، يمكن استعراض نتائج مؤشر القوة الناعمة العالمية (Global Soft Power) الصادر عن مؤسسة «براند فاينناس» البريطانية (Finance  Brand) في آخر نسخة صدرت عنها لعام 2022، والتي أبرزت تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من استعادة صدارتها في المركز الأول بالمؤشر لعام 2022 بعد التراجع الذي منيت به (المركز السادس) خلال عام 2021، نتيجة تأثر تصورات الأفراد عنها حول العالم باستجابتها غير الفعَّالة لأزمة «كوفيد- 19»، والسياسات المثيرة للجدل للرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب». غير أنها كشفت أيضًا عن تحسُّن ملحوظ في تصنيف الصين بالمؤشر؛ نتيجة لتقدمها إلى المركز الرابع (للمرة الأولى على الإطلاق) صعودًا من المركز الثامن في عام 2021، لتتجاوز بذلك قوى آسيوية بارزة مثل اليابان. يُضاف إلى ذلك إحراز بكين لتقدم ملموس في بعض المؤشرات الفرعية المهمة على وجه الخصوص، منها مجيئها بالمركز الثاني في مؤشر درجة التأثير، وتصدرها للمركز الأول في مؤشر الأعمال والتجارة، لتسبق بذلك الولايات المتحدة وحلفاء بارزين لها، مثل ألمانيا واليابان. وحتى بالنسبة لروسيا، فرغم تأكيد المؤشر على تضرر قوتها الناعمة حول العالم نتيجة لدورها في إذكاء الأزمة في أوكرانيا، فإن ترتيبها في التصنيف قد تحسَّن أيضًا؛ إذ صعدت من المرتبة الـ (13) خلال عام 2021 إلى المرتبة التاسعة لعام 2022، لتصبح بذلك ضمن مصاف الدول العشر الأولى.
وعلى هذا النحو، نلاحظ وجود تقارب كبير بين الدول الثلاث في مؤشرات القوة التقليدية وغير التقليدية، الأمر الذي يعكس وجود تحول واضح في موازيين القوى الدولية لصالح الصين وروسيا كمنافس قوي للولايات المتحدة التي اعتبرت نفسها على مدار عقودٍ المهيمن الرئيس على النظام الدولي. 
 
 
ثانيًا: كيف ينظر الغرب إلى الصعود الصيني والروسي؟ 
في خطاب ألقاه رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» في يوليو 2022، خلال منتدى لدعم التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا في ديتشلي بارك غربي لندن، ضمن محاضرة بعنوان «ما بعد أوكرانيا: ما الدروس الحالية للقيادة الغربية؟»، قال «بلير»: «إن حرب أوكرانيا أظهرت أن نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية باتت وشيكة، بالتزامن مع صعود الصين إلى مصاف القوى العظمى بالشراكة مع روسيا، في واحدة من أهم مراحل التحول بالمشهد العالمي منذ قرون». وأضاف قائلًا: «إن العالم يتجه ليكون ثنائي القطبية أو ربما متعدد الأقطاب... كما أن التغيير الجيوسياسي الأكبر في هذا القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا». وفي تبريره لأسباب هذا التحول، أكد «بلير» أن التغيير الذي طرأ على ميزان القوى الدولي يرتبط بـ «تراجع الغرب» أكثر من ارتباطه بـ «صعود الصين»، موضحًا أن الصراع في أوكرانيا فاقم المشكلات التي تختمر داخل الدول الغربية، وكشف عن مدى هشاشة وضعف القوى الغربية. وعلى هذا النحو، أشار «بلير» إلى أنه سيتعين على القوى الغربية ألّا تسمح لبكين بالتفوق عسكريا عليها، داعيًا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي للكتلة الغربية بهدف الحفاظ على تفوقها العسكري».  
 
 
وعلى صعيد الوثائق الأمريكية الرسمية، فقد أشارت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022 (National Security Strategy)  إلى الصين باعتبارها «الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتمتلك بالفعل القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي تؤهلها للقيام بذلك». وبالنسبة لروسيا، فقد رأت الاستراتيجية أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى تقليص مكانة موسكو على الساحة الدولية بشكل كبير مقارنة بقوى أخرى صاعدة، ذكرت منها الصين.
 
 
ووصفت استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية (National Defence Strategy) لعام 2022 الصين بأنها المنافس الاستراتيجي الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة خلال العقود القادمة، معتبرة ما تصفه بـ «النوايا التعديلية» لبكين لإعادة تشكيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ وكذلك النظام الدولي وفقًا لمصالحها وتفضيلاتها، جنبًا إلى جنب مع اتجاه بكين لتحديث وتعزيز قدرات جيش التحرير الشعبي، بمثابة التحدي «الأكثر شمولًا وخطورة» على الأمن القومي الأمريكي. واستغرقت الاستراتيجية بشكل خاص في التطرق إلى التعزيزات التي طرأت على قدرات جيش التحرير الشعبي خلال السنوات الأخيرة الماضية، موضحة أنه في إطار اتجاه بكين لتعويض المزايا العسكرية للولايات المتحدة، فإنها اتجهت لتعزيز وتحديث قدراتها العسكرية التقليدية، فضلًا عن إحراز تقدم ملموس في دمج قدراتها في مجال الفضاء إلى جانب قدراتها السيبرانية والمعلوماتية في إطار نهج شامل يدعم فكرة الحرب المشتركة، وذلك كله بالتوازي مع تسريع وتيرة تحديث وتعزيز القدرات النووية الصينية. وعلى الجانب الآخر، وصفت الاستراتيجية روسيا بأنها «تهديد حاد»، مشيرة إليها باعتبارها تسعى لاستخدام القوة لـ «فرض تغييرات حدودية تستهدف استعادة نفوذها الإمبراطوري». وأكدت الاستراتيجية أن روسيا لا تزال تمثل خطرا حقيقيا بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها في حلف «الناتو»، لا سيَّما فيما يخص التهديدات النووية، وتهديدات الأسلحة الكيميائية والبيولوجية (CBW)، فضلًا عن التهديدات السيبرانية، ومخاطر عسكرة الفضاء الخارجي، وتقويض الديمقراطيات الغربية. 
 
 
وفي المراجعة الخامسة للموقف النووي الأمريكي (US Nuclear Posture Review) التي أصدرتها الإدارة الأمريكية للرئيس «جو بايدن» في 27 أكتوبر 2022، تم تحديد أربعة أعداء نوويين محتملين للولايات المتحدة الأمريكية، وهم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، غير أن الوثيقة ركزت بشكل كبير على روسيا والصين باعتبارهما يمثلان تحديًا رئيسًا لقدرات الردع النووي الأمريكية؛ نتيجة للترسانة النووية الضخمة التي تمتلكها روسيا من جهة، والتطورات المتسارعة في قدرات الترسانة النووية الصينية من جهة أخرى. ورغم أن اعتبار موسكو وبكين محورًا رئيسًا للتهديد النووي بالوثيقة لم يكن مستغربًا، خصوصًا أنه سبق التحذير من القدرات النووية المتنامية للصين في وثيقة مراجعة الوضع النووي الأمريكي لعام 2018، فإن الجديد هذه المرة هو الإقرار صراحةً بأن الولايات المتحدة - للمرة الأولى في تاريخها - ستكون مضطرة لمواجهة «قوتين نوويتين رئيستين كمنافسيْن استراتيجييْن وخصميْن محتمليْن» بحلول عام 2030، وهما الصين وروسيا.   
 
 
فمن ناحية، اعترفت الوثيقة بأن الصين تُمثل «تحديًا متزايدًا» للتخطيط الدفاعي والردع النووي للولايات المتحدة، وذلك في ضوء ما وصفته بـ «اتجاه بكين لتعزيز وتحديث وتنويع قدراتها النووية»، بما في ذلك إنشاء «ثالوث نووي» ناشئ (بمعنى القدرة على إطلاق صواريخ باليستية نووية من البحر والأرض والجو). وتشعر الولايات المتحدة بالقلق على وجه الخصوص من أن تُسهم القدرات النووية الصينية المتنامية في توفير خيارات إضافية للصين للاستفادة من أسلحتها النووية في أي أزمة أو صراع محتمل مع واشنطن في المستقبل، بما في ذلك الاستفزازات العسكرية بين الجانبين في منطقة بحر الصين الجنوبي؛ حيث تؤكد الوثيقة اعتزام الصين امتلاك ما لا يقل عن 1000 رأس حربي بحلول نهاية العقد الحالي.
 
 
ومن ناحية أخرى، اعتبرت الوثيقة أن الترسانة النووية الروسية تُمثل تهديدًا وجوديًّا للولايات المتحدة وحلفائها؛ إذ أكدت أن موسكو اتبعت على مدار العشرين عامًا الماضية برنامجًا واسع النطاق للتحديث العسكري، تضمن تحديث الأنظمة النووية الاستراتيجية القديمة التي تمتلكها البلاد، وتعزيز وتنويع الأنظمة النووية الروسية، بما جعلها مصدر تهديد مباشر لحلف شمال الأطلسي ودول شرق أوروبا، خصوصًا أن القيود المفروضة على الأسلحة النووية الروسية بموجب معاهدة «ستارت الجديدة» (New START) لا تسري سوى على الرؤوس النووية الاستراتيجية، بما يجعل عددًا كبيرًا من الأسلحة النووية الروسية غير مقيد بأية معاهدة.
 
 
روسيا والولايات المتحدة الأمريكية تمتلكان 90% من الأسلحة النووية حول العالم
مخزون الرؤوس النووية حول العالم (وفقًا لتقديرات عام 2022)
وعلى هذا النحو، نجد أن ثمة إقرارًا غربيًا واضحًا ببروز الصين وروسيا كقوى دولية عظمى يمكنها مناوئة الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة والقوى الغربية على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية. 
 
 
ثالثًا: ملامح المستقبل 
إن القول بأن عالم اليوم يشهد حربًا باردةً جديدة من عدمه يستدعي الوقوف على أبرز المحددات التي حكمت حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقًا، لا سيَّما في أوجها، ومن ثمَّ الكشف عن درجة التقارب بينها وبين السياق الذي يشهده النظام الدولي في وقتنا الراهن. وعلى رأس هذه المحددات، تجذُّر الانقسام في ميزان القوى العالمي والنظام الدولي بين قطبين تقودهما قوتان عظميان متنافستان، وهما: الولايات المتحدة الأمريكية، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية (الاتحاد السوفيتي سابقًا)، وبروز حالة من الاستقطاب الحاد السياسي والأيديولوجي والعسكري بين الكتلتين، في ظل تسابق كل منهما على كسب الحلفاء الذين كانوا مضطرين للوقوف صراحةً في صفوف أحد الجانبين.
 
 
وفي حين كانت العاصمة الألمانية «برلين» الساحة الأبرز للحرب الباردة، فإن شرارة الحرب عمَّت أرجاء أوروبا بأكملها، نتيجة لجنوح الاتحاد السوفيتي لتوسيع نفوذه عبر إنشاء كتلة شرقية من الحكومات الشيوعية في دول الشرق الأوروبي (مثل: بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر)، الأمر الذي ردت عليه الولايات المتحدة باتباع ما عُرِف بـ «سياسة الاحتواء»؛ لتطويق هذه الكتلة الناشئة آنذاك، إلى جانب تقديم حزم من المساعدات الاقتصادية لإعادة إعمار دول أوروبا الغربية. هذا، وقد امتدت المواجهات بين المعسكرين إلى مناطق أخرى حول العالم، مثل: الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، في إطار مساعي كل طرف لفرض سيطرته واكتساب الحلفاء.   
 
 
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى عدة ملامح برزت مؤخرًا في إطار سباق النفوذ بين واشنطن وكل من بكين وموسكو، بما دعم فرضية تجدد الحرب الباردة، ومنها: 
 
 
أ‌. مواجهة مستعرة مع القوى الغربية
على مستوى الأيديولوجيا
 أثار صعود الصين كقوة اقتصادية كبرى في ظل نموذج سياسي لا يؤمن بقيم الديمقراطية الغربية شكوكًا كثيرة حول مدى صحة فرضية هيمنة «النموذج الغربي للتنمية» كنموذج أمثل للحداثة، بل وطرَح بديلا «آخر» ربما أضحى أكثر واقعية وجاذبية في نظر بعض الدول. وعلى النقيض من المساعدات الأمريكية والغربية المشروطة عادةً، لا يتم تقييد القروض الصينية بأية شروط سياسية، ورغم المخاوف المرتبطة بسياسات الإقراض الصينية، لا سيَّما تجاه الدول التي تعاني من ضائقة مالية، والتي قد تكافح لاحقًا لسداد ما حصلت عليه من قروض، بما يمنح بكين فرص واسعة للسيطرة على العديد من موانيها البحرية الاستراتيجية، فإن حجم الاستياء العالمي من الممارسات الصينية لا يمكن مضاهاته بالاستياء واسع النطاق من سياسات «التبشير الأمريكي» بقيم الديمقراطية الليبرالية حول العالم، خصوصًا مع تصاعد حدة الرفض - ربما داخل المجتمع الأمريكي ذاته - لفكرة «الاستثنائية الأمريكية» أو «السمو الأخلاقي الأمريكي».
 
 
على صعيد التنافس الجيوسياسي
كما اكتسب العالم طابعًا أيديولوجيًّا إبان حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقًا، فقد شهد عالم اليوم أيضًا توظيفًا واسعًا أيضًا للأيديولوجيا في خضم التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا حول المناطق الاستراتيجية حول العالم. 
 
 
ففي إطار سعي واشنطن لمناهضة النفوذ الصيني المتنامي في بحر الصين الجنوبي، باتت استراتيجية «احتواء الصين» هي المحرك الرئيس لتفاعلات الولايات المتحدة وحلفائها إزاء منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبناءً عليه، تم الدفع بالعديد من المبادرات الاستراتيجية والأمنية بين الولايات المتحدة ومن تعتبرهم «قوى ديمقراطية» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لموازنة النفوذ الصيني المتنامي بالمنطقة، وأبرزها: الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم «كواد» (Quad)، والذي يشمل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، والاتفاق الأمني الثلاثي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا المعروف باسم «تحالف أوكوس»(AUKUS) . ولمواجهة الاستثمارات الصينية المتنامية في البنية التحتية البحرية والبرية وخطوط السكك الحديدية حول العالم في ضوء مبادرتها الرائدة «الحزام والطريق»، والتي تتهمها القوى الغربية بعدم الشفافية، وتعتبرها مناهضة للقيم الديمقراطية، عملت الولايات المتحدة وشركاؤها على طرح العديد من المشروعات المنافسة لتعزيز البنية التحتية، أبرزها مبادرتا «نحو بناء عالم أفضل» (Build Back Better World)، و البوابة العالمية»(Global Gateway) .  
 
 
هذا، وقد كانت الأيديولوجيا حاضرة بقوة أيضًا منذ الشرارة الأولى لاندلاع الحرب في أوكرانيا. فمن ناحية، استخدم الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» تعبير مناهضة «النازيين الجدد» كتبرير للبدء في عمليته العسكرية ضد كييف في الرابع والعشرين من فبراير 2022، ومن ناحية أخرى، اتجهت القوى الغربية لتأطير الصراع على أنه معركة بين «الديمقراطية والسلطوية».
 
ب‌. الصين وروسيا.. تكتل شرقي ناشئ 
على النقيض من الخبرات التاريخية السلبية لانعدام الثقة بين الصين وروسيا، والتي تمتد إلى الحقبة السوفيتية، وتضمنت تصعيدًا في بعض مراحلها، وصولًا إلى حد الانخراط في مواجهات مسلحة حول نزاع حدودي بينهما، فإن البلدين تمكنا من تحقيق دفعة كبيرة من التعاون السياسي والعسكري بعد نجاحهما في التفاهم بشأن النزاع الحدودي عام 2004. ومنذ ذلك الحين، ثمة حالة من التعزيز المستمر في العلاقات الصينية الروسية.
 
 
ودعم هذا الاتجاه العديد من عوامل التقارب التي تجلت فيما بعد بين الدولتين، فرغم التباين الملموس في هيكل النظام السياسي لكل منهما، فإنهما يجتمعان حول رؤية مشتركة بشأن معارضة هيمنة النموذج الديمقراطي الغربي الذي أرسته الولايات المتحدة الأمريكية كمعيار أوحد للحداثة يتعين على جميع دول العالم الاقتداء به. كما يتفقان على تقييمات متقاربة لحجم التهديد الذي تمثله واشنطن وحلفاؤها من القوى الدولية، سواء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» أو في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، على مصالح كل منهما، لا سيَّما ما يتعلق بنظر الجانبين إلى الولايات المتحدة باعتبارها تسعى لتطويقه وعزله عسكريا، فضلًا عن تهديد وحدة أراضيه واستقراره السياسي. وهذا كله إلى جانب كون الدولتين تواجهان وطأة العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليهما لأسباب مختلفة. ومؤخرًا، اكتسب التقارب بين الصين وروسيا زخمًا إضافيًّا مع توقيع الرئيسين الروسي «فلاديمير بوتين» والصيني «شي جين بينج» إعلانًا مشتركًا قبل أسابيع قليلة من اندلاع شرارة الصراع الروسي الأوكراني، حمل اسم «الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهدًا جديدًا والتنمية المستدامة». واللافت للنظر في الوثيقة أمران؛ أولهما: الاسم وما ينطوي عليه من دلالات؛ فكأن المقصود ضمنيًّا هو «حقبة جديدة من العلاقات الدولية لا تسود فيها الولايات المتحدة العالم»، لا سيَّما مع انتقاد الوثيقة لواشنطن في تسعة مواضع بها.  وثانيهما: تعدد مجالات التعاون التي تطرقت إليها الوثيقة في بنودها التي تجاوزت الثلاثين بندًا، والتأكيد على دعم البلدان لبعضهما بعضا في حماية مصالحهما الاستراتيجية، ومناهضة أية تدخلات أجنبية في شؤونهما، في خطوة تبعث برسالة صريحة مفادها أن العلاقات الثنائية بين موسكو وبكين «لا حدود لها». وإذا ما أضفنا لذلك وضوح وحِدّة اللهجة التي تم استخدامها للتعبير عن تكاتف الدولتين إزاء التهديدات التي تمثلها الولايات المتحدة وحلفاؤها من القوى الغربية لكل منهما، وتحديها الصريح لهيمنة قيم الديمقراطية الغربية، فيمكن اعتبار الإعلان -على أقل تقدير- خطوة يُعتد بها لإرساء اللبنات الأولى لمعسكر شرقي تتزعمه موسكو وبكين في مواجهة المعسكر الغربي التقليدي بقيادة الولايات المتحدة وشركائها في الناتو.
 
 
في ضوء ما تقدَّم، ليس هناك ما ينفي فرضية «تجدد الحرب الباردة»، إذ تشير المعطيات التي سبق توضيحها بصورة أو بأخرى إلى أننا بصدد «حرب باردة جديدة»، لكنها تأتي هذه المرة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وحليفها الروسي وشركائهما من جهة أخرى، وتتسم بطبيعة مغايرة، فعلى النقيض من سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية، حينما سطع نجم الولايات المتحدة الأمريكية وعدوها اللدود الاتحاد السوفيتي (سابقا) في ظل نظام ثنائي القطبية يميل كل الميل لصالحهما بلا منازع، في صورة عززت حدة الاستقطاب بينهما، تأتي المواجهات هذه المرة في ظل تحول كبير في موازيين القوى الدولية لصالح نظام دولي أقرب إلى التعددية القطبية منه إلى الثنائية، نظرًا لوجود العديد من الأقطاب الدولية الصاعدة على الساحة الدولية، والتي قد لا تجد نفسها مضطرة بالضرورة للوقوف في صف أحد المعسكرين بصورة حاسمة. وبخلاف ما كان عليه الحال إبان حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقًا، من حيث احتدام الاستقطاب الأيديولوجي بين الجانبين، ومن ثمَّ انعكاسه على التنافس الجيوسياسي بينهما، نجد أن التنافس الجيوسياسي أضحى قائد المشهد اليوم، وإن كانت القوى الدولية - من المعسكرين إن صح التعبير - لا تتحرج من إضفاء طابع أيديولوجي على سباقها المحموم حول مناطق السيطرة والنفوذ، بهدف توظيفه كأداة ليس أكثر، إذ باتت القوى الدولية في عالم اليوم أكثر حرصًا وتجنبًا للدخول في منافسات أيديولوجية محتدمة.
 
 
وختامًا، فعلى الرغم من احتدام المواجهة بين روسيا والقوى الغربية - وفي صدارتها الولايات المتحدة الأمريكية - في أوروبا على خلفية الصراع الروسي الأوكراني، فمن المُرجَّح أن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي مركز المواجهة الرئيس في الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين وحلفاء كل منهما خلال العقد أو العقدين المقبلين، ومن المتوقَّع بشكل كبير أن تُسهم المنافسة بين الجانبين في تشكيل الديناميكيات الاستراتيجية بهذه المنطقة الحيوية التي تُعد موطنًا لأكثر من نصف سكان العالم، وتُسهم بحوالي 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (29). هذا، وليس مستبعدًا في مرحلةٍ ما أن يجد الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة بالمنطقة، وخاصة أستراليا وكوريا واليابان والفلبين وتايلاند، أنفسَهم مضطرين للانحياز إلى أحد الجانبين الأمريكي أو الصيني، وسيكون المستقبل محكومًا بمدى قدرة الجانبين على إدارة المنافسة الاستراتيجية بينهما، بما يقطع الطريق أمام أي مواجهة عسكرية مباشرة قد تفتح الباب أمام سيناريوهات غير معدودة.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره