مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2024-06-06

ضبط إدارة المنافسة

إن ما نعيش من خلاله اليوم في النظام العالمي من تطورات قد تكون هي الأكثر تحدياً لشكل النظام منذ ما بعد تشكله وفقاً لما سُمي بالنظام الدولي القائم على القانون لفترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. النظام الذي أسست له الدول الكبرى في ذلك الحين يواجه اليوم خطر التحدي من قبل دول كبرى جديدة طامحة لنظام دولي جديد. فلا يُعقل أن تكون أسس النظام الذي شكلته الولايات المتحدة ومعها بعض الدول الأوروبية الغربية في ذلك الوقت أن تكون هي ذات الأسس للنظام الحالي الذي بدأت تبرز فيه قوى جديدة في النظام العالمي وتتلاشى فيه قوى سابقة. هذه هي سنة الحياة، حيث لا يمكن لجيل جديد أن يعيش بفكر الجيل السابق إذا ما أُريد للحياة الاستمرار.
 
 
الدول الكبرى الجديدة تشعر بأنه من حقها أن يكون لها بصمة في النظام العالمي، وهذا أمر طبيعي في منظومة تطور الحياة. إلا أن المشكلة الرئيسية هي ليست في بروز قوى جديدة على الساحة العالمية كلاعبين دوليين، بل هي مرتبطة بالدرجة الأولى برفض الدول الكبرى القائمة بأن يكون للدول الكبرى الجديدة دور في النظام القائم، أو ضرورة مسايرة متطلبات الدول الكبرى الجديدة في معادلة التفاعلات العالمية. وهذا هو الخطر الأساسي الذي يُداهم النظام العالمي الحالي. المعروف أن النظام العالمي يتشكل وفقاً لمنظومة عملية إدارة التفاعلات التنافسية بين الدول الكبرى أي الدول المؤثرة في معطيات النظام. فالعلاقة التنافسية القائمة بين الدول الكبرى هي المحدد الأساسي لشكل النظام العالمي، وهي القادرة على ضبط تفاعلاته، ومتى ما حدث اختلال لعملية الضبط هذه تحدث إشكاليات في منظومة النظام العالمي تُلقي بضلالها على مختلف جوانب العلاقات الدولية. 
 
 
ولعلنا في الوقت الراهن نعيش فترة الاختلال في عدم ضبط التنافس القائم بين الدول الكبرى بسبب رفض الدولة الكبرى القائمة والمتمثلة في الولايات المتحدة أن تتنازل عن بعض من مسؤولياتها وأدوارها لصالح فاعلين جدد لا يؤمنون بشكل كامل بالقيم والمبادئ التي تؤمن بها الدولة الكبرى القائمة. فالصراع الحالي القائم مع الصين هو صناعة أمريكية بالدرجة الأولى، وسببه رفض واشنطن قبول بكين كلاعب دولي يوازي حجم الولايات المتحدة أو يشاركها في إدارة النظام العالمي. وهذا ما يجعلنا غير متفائلين في مجريات النظام الدولي الحالي الذي لا يبدو أن الطرف الأمريكي لديه الرغبة في قبول الطرف الآخر الصاعد في المنظومة الدولية، وعليه فنحن أمام غياب لضبط التنافس بين أقوى قوتين في العالم، مما ينذر بإشكاليات لها تأثيراتها الكبيرة على تطور التفاعلات الدولية في عالم اليوم. 
 
 
ولعل لنا في الحرب الباردة التي دارة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الفترة من 1949 وحتى 1990 درساً نتعلم منه. ففي تلك الفترة كان هناك درجة كبيرة من الضبط في عملية إدارة التنافس القائمة بين البلدين المتنافسين، رغم أنهما كانا مختلفين أيديولوجياً بشكل أكبر وواضح عن الاختلاف الأيديولوجي القائم اليوم بين الولايات المتحدة والصين. فالعالم كان منقسماً بين معسكرين أيديولوجيين، وكانا على درجة متوازية من القوة، حيث كانت هناك دول تتبع الولايات المتحدة وتساند مشروعها، ودول أخرى تتبع الاتحاد السوفيتي وتدعم مشروعه. في حين أن الوضع الحالي لا يحمل ذلك الطابع المُخيف. فالاختلاف وإن كان فكرياً كما تحاول الولايات المتحدة صبغته في علاقتها مع الصين، إلا أن الصين لم تتمكن من خلق معسكر موالي لها مستعد لمنافسة الولايات المتحدة ومشروعها العالمي كما كان الحال عليه مع الاتحاد السوفيتي. فالورقة ما زالت في يد الولايات المتحدة لإعادة ترتيب النظام العالمي بشكل يجعلها مركز الثقل ولكن من دون الدخول في حرب باردة أو غير باردة مع الصين. 
 
 
المطلوب كي تتحقق درجة من الانضباط في تطور تفاعلات النظام الدولي هو عملية ضبط لإدارة التنافس القائمة بين الولايات المتحدة والصين، إدارة أكثر حكمة وانضباط مما نشاهده اليوم من عنتريات لا تصب في صالح الأمن والاستقرار العالميين. بل أنها قد تؤدي بالصين إلى الانجراف وراء تكوين معسكرات جديدة قوامها الدول الرافضة للهيمنة الأمريكية كروسيا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا وبعض الدول الأخرى الموجودة حول العالم. حدوث مثل هذا الأمر لن يكون في صالح استقرار النظام العالمي الذي هو في أمس الحاجة إلى التقارب والتعاون بشكل مشترك لمواجهة الأخطار العالمية المحدقة به، من حروب غير متكافئة وغير متماثلة، وأزمات بيئية مدمرة، وتطور تكنولوجي غير منضبط، وأمراض وأوبئة، وجماعات إرهابية بفكر متطرف، وحروب اقتصادية منهكة لبرامج التطور والنمو. وضع كهذا لا نجده وللأسف يتشكل حالياً في منظومة التفاعلات الدولية وبالأخص بين الولايات المتحدة والصين، الأمر الذي يجعلنا أقل تفاؤلاً لمستقبل النظام العالمي.
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-10-02 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره