حتى نحن المتخصصين والمهتمين بشأن دراسة التفاعلات الدولية في النظام العالمي نصطدم بتساؤلات محيرة حول شكل النظام الذي نعيش فيه. والسبب بالطبع هو أن الدول الكبرى التي أسست للنظام العالمي تسعى لإحداث تغيرات عليه تتماشى مع ما تريد أن تفرضه هي على الآخرين باعتبارها مسلمات يجب الالتزام بها من الجميع. مفارقة قد تكون منطقية باعتبار أن القوي دائماً ما يحاول فرض أجندته على الآخرين، ولكن المنطقي أيضاً أن هناك من في النظام من لا يقبل بفرض توجهات جديدة عليه لا يكون هو طرف في تشكلها أو أنها تغير من المسلمات التي لطالما ظل يعتبرها تحقق مصلحته الوطنية.
هذا تماماً ما يحدث في عالم اليوم من مسعى أمريكي واضح لتغير النظام العالمي ليساير مصالح الولايات المتحدة ويتجاهل مصالح شعوب ودول أخرى في العالم، وهو ما يفسر لنا حالة التوتر وعدم الاستقرار الذي يعاني منه النظام العالمي الحالي.
لقد كان نظام ويستفاليا الذي تأسس في عام 1648 هو المؤطر لبناء ما سُمي بالدولة الوطنية، وساهم هذا النظام في تحقيق درجة من الأمن والاستقرار في النظام العالمي أو الشعور به نظراً للمبادئ التي جاء بها والتي فرضت نوعاً من الاحترام لمفاهيم جديدة كمفهوم الدولة الوطنية، ومفهوم سيادة الدولة على أرضها وشعبها، ومفهوم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومفهوم حق تقرير المصير للشعوب. هذا النظام كان له الفضل في الحد من الحروب الكبرى التي كانت تتم وفقاً لمعطيات التوسع الإمبراطوري لإمبراطوريات وممالك ساهمت في إحداث الحروب الكبرى في العالم وخلقت إشكاليات قومية للعديد من الشعوب في مختلف بقاع الأرض. فأصبح النظام العالمي يتجه صوب مثل هذه المبادئ وإن لم تكن بشكل منصف وعادل للجميع، ولكنها استطاعت أن تخلق تصور لشكل نظام عالمي جديد تؤطر من خلاله الدول - ولاسيما الكبرى - تفاعلاتها وعلاقاتها المشتركة بعيداً عن المواجهة والحروب ونحو احترام الآخر ولو بدرجة معينة وفقاً لمبادئ نظام ويستفاليا.
هذا النظام واجه تحدي آخر بعد الحرب العالمية الثانية من خلال سعي الولايات المتحدة إلى فرض مبادئ جديدة على النظام الويستفالي لا يوافق عليها الجميع، بل وينظر إليها على أنها مبادئ جديدة يسعى المنتصر من القوى الكبرى فرضها على العالم. نظام عالمي يعتمد أسس المبادئ الليبرالية الغربية كمرتكزات أساسية لتوجهات الدول الكبرى الغربية للتعامل معه، ومحاولة فرضها على الآخرين باعتبارها مسلمات عالمية من خلال إنشاء مؤسسات دولية تعنى بمتابعتها والعمل على تطبيقها. مبادئ أسست لقواعد نظام عالمي قوامه الديمقراطية والرأسمالية التجارية والحرية وحقوق الإنسان، وهي مبادئ تتجاهل إلى درجة كبيرة مرتكزات النظام العالمي القائم على مبدأ ويستفاليا الذي يحترم سيادة الدول وخصوصيتها وضرورة عدم التدخل في شؤونها الداخلية.
لذلك أصبحنا نعيش اليوم في نظام عالمي تحكمه فكرتين أساسيتين: فكرة النظام الويستفالي وفكرة النظام الليبرالي. فنظامنا أصبح متداخل بين هاتين الفكرتين، وأصبح العالم منقسم في تصوراته للنظام وفقاً لهاتين النظرتين. الأمر الذي جعل بعض الدول تركز على ضرورة احترام فكرة معينة دون الأخرى. كالولايات المتحدة مثلاً التي تروج لفكرة النظام الليبرالي، والصين ومعها روسيا التي تركز على ضرورة احترام فكرة النظام الويستفالي. لكن الواضح أن مثل هذه الدول هي ذاتها مشوشة حول الفكرة التي تدعمها، حيث أن النظام الليبرالي الذي تدفع نحوه الولايات المتحدة يواجه انتقادات لاذعة من قبل العديد من دول العالم حول مدى جدية التزام الولايات المتحدة بمبادئ النظام الليبرالي في ظل دعمها للعديد من الممارسات غير الليبرالية من قبل بعض الدول في النظام العالمي كإسرائيل على سبيل المثال، وهو ما يقوض مصداقية الولايات المتحدة في مسألة التزامها بالنظام العالمي القائم على احترام القانون الدولي وأسسه الليبرالية. وكذلك بالنسبة لدول مثل روسيا التي من المفترض أن تركز على مبادئ النظام الويستفالي في مواجهة النظام الليبرالي الغربي إلا أن تدخلاتها في الدول الأخرى وبالأخص مع ما يحدث من قبل روسيا في أوكرانيا يقوض مكانة النظام الويستفالي في منظومة التفاعلات الدولية.
مثل هذا الوضع يجعلنا غير قادرين على تحديد شكل النظام العالمي الحالي، الأمر الذي يُلقي ضلاله على التفاعلات الدولية التي تجد مجالاً واسعاً للتجاذبات والاختلافات بين دول العالم. فهل نحن نعيش في إطار النظام الويستفالي أم في إطار النظام الليبرالي؟ لا يبدو أن هناك اجماع حول هذا الموضوع.
لا يوجد تعليقات