كما يقول السياسيون إن كل السياسات هي محلية، أي أن المستهدف من السياسات التي تتخذها حكومات الدول مهما كانت تحمل في طياتها من غطاء للسياسة الخارجية هو الداخل المحلي في الدول بشكل أساسي. هذا لا يعني أن منظري علم السياسة وبالأخص المهتمين في تنظير العلاقات الدولية يتفقون بشكل كامل مع هذه المقولة، ولكن بالشكل العام يمكن أن يقال بأن هذه المقولة لها درجة كبيرة من الصحة، وبالأخص في الدول التي يهتم السياسيون فيها بصوت الناخب المحلي. وهذا ربما هو ما يمكن أن يفسر لنا خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الأول له أمام الكونغرس الأمريكي حول حال الاتحاد. خطاب كان مفعماً بالقضايا التي تهم الداخل الأمريكي، وأن تلك القضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية التي تم التطرق لها في الخطاب كانت موجهة أساساً للداخل الأمريكي بالدرجة الأولى.
نستطيع القول بأنه لم تحظى السياسة الخارجية للرئيس بايدن بتغطية كبيرة في خطابه هذا، وكان التركيز على الشأن الداخلي والمرتبط بالاقتصاد كمواضيع البطالة والمديونية وارتفاع التكاليف المعيشية والتضخم والاستثمار في الصناعات الحيوية والبنية التحتية الأساسية والطاقة النظيفة والضرائب، والمرتبط بالقضايا الاجتماعية كالأسرة وحقوق المثليين والمرأة والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، والمرتبط بمواجهة المشاكل ومحاولة ردء الصدع الداخلي المنقسم بين الديمقراطيين والجمهوريين وبالأخص في داخل أروقة مركز التشريع الأمريكي. بمعنى آخر أن الرجل حاول أن يتطرق إلى كل ما يمكن أن يرضي الداخل الأمريكي، حتى أنه تطرق إلى مسألة فرض رسوم مالية من قبل شركات الطيران الأمريكية على المسافرين الراغبين في الجلوس بالقرب من بعضهم البعض أثناء رحلاتهم الجوية! لكن أين السياسة الخارجية من كل ذلك؟
في هذا الموضوع تطرق الرئيس بايدن إلى مسألتين في خطابه مرتبطة بالسياسة الخارجية وهما أوكرانيا والحرب الروسية على ذلك البلد، وكذلك موضوع الصين. يبدو أن هذين الموضوعين هما أهم ما يمكن للشعب الأمريكي تقبل الحديث عنه في الوقت الراهن. لذلك لم نجده يتطرق إلى قضايا العالم الأخرى، وبالأخص قضايا منطقة الشرق الأوسط وبالذات التعامل مع إيران وملفها النووي، ولا حتى مكافحة الإرهاب أو حتى الإشارة لإسرائيل والالتزام بأمنها! هل هذه المواضيع أصبحت بلا أهمية كبيرة للناخب الأمريكي ام أن الرئيس بايدن ليس لديه من الإنجازات ما يمكن أن يقدمه للشعب الأمريكي كي يتفاخر بها في خطابه حول حال الاتحاد في فترة السنتين الأولى من عهده؟! في اعتقادنا أن التفسير الثاني هو الأقرب لسبب هذا التهميش.
فأوكرانيا ودعمها ينطلق من مصلحة قيمية لدى الأمريكان بضرورة مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي لا تحترم الديمقراطيات في الدول الأخرى، لذلك نجده يتطرق إليها وبشكل سريع وغير مفصل، لأنه يعلم بانه لا يود أن يؤجج الداخل الأمريكي كثيراً حول حجم الأموال التي تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا في حين أن الداخل الأمريكي يهمه دعم مستواه المعيشي وحياته الاقتصادية أكثر من دعم أطراف أخرى دولية. وعن الصين فإن الرئيس بايدن لا يمكن أن يتجاهل ذكر الصين لأن الجمهوريين مهتمين بهذا الموضوع كثيراً، وعليه فإنه لا يود ان يبرز كرئيس ضعيف لم يتطرق إلى التحدي الصيني للولايات المتحدة، وما يمكن ان يفعله لمواجهتها. ولكن ظل ذلك التطرق لروسيا والصين خجولاً في خطابه حول حال الاتحاد. ليكون هذا الخطاب خطاباً للقضايا الداخلية بامتياز.
غابت منطقة الشرق الأوسط وقضاياها عن خطاب الرئيس بايدن، ومعه زادت الشكوك حول مدى فاعلية هذه الإدارة الأمريكية على فعل شي حول قضايا المنطقة. وكأن المنطقة لم تعد من أولويات الإدارة الأمريكية، بل أن الداخل هو صاحب الأولوية، وهذا أمر مفهوم كما ذكرنا في بداية المقال، لأن ما يهم الداخل في مسار السياسة الخارجية هو ما تم التطرق إليه دون غيره. لذلك نعتقد بأن هذا الخطاب كان ضعيفاً في مسار توجيه الرأي العام العالمي حول الاهتمام الأمريكي بالعالم، وكانت قوته ترتبط بالشأن الداخلي بالدرجة الأولى. وباعتبار أن خطاب حال الاتحاد هو تتويج لمسيرة سنتين من الإنجازات للرئيس الأمريكي، فلربما أن غياب النجاحات على المستوى الدولي (باستثناء ربما أوكرانيا إلى درجة) خلال هاتين السنتين أفقد بريق الاهتمام بالسياسة الخارجية في هذا الخطاب، وكان التركيز على الداخل باعتبار أن الإنجازات لربما كانت أكثر وضوحاً في المجالات المرتبطة بالسياسة الداخلية.
لا يوجد تعليقات