مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2025-05-04

صراع الأفكار الثلاث ومستقبل العالم

إن اللحظة الحالية التي يمر من خلالها عالمنا المعاصر هي لحظة تُعيدنا إلى الوراء ولفترة ما قبل قيام النظام العالمي الحالي بمؤسساته الدولية المُنضمة لتفاعلاته المختلفة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فنحن اليوم أمام اعتاب نظام دولي يفرض نفسه بالقوة ويرفض التغير الطبيعي للتطورات والتفاعلات الدولية، ويأخذنا إلى فرض رؤية واحدة لا ثاني لها وهي رؤية القوة والهيمنة ورفض بروز الآخر. إنها اللحظة التي تريد الولايات المتحدة بالذات، وفي فترة رئيسها الحالي دونالد ترامب، أن تأخذ العالم إليه. 

لقد حاولت أوروبا منذ نشأة اتحادها القائم حالياً إلى أن تجعل النظام الدولي نظاماً أكثر قانونية ويعتمد على احترام القانون والسير وفق منظومة عمل دولي يعتمد على تنفيذ القوانين التي تحترم الحقوق العالمية وتسهم في تحقيق الأمن والاستقرار. فهذه هي النظرة التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي كأسلوب لضمان بقاء اتحاده كوحدةٍ واحدةٍ متجانسةٍ وقوية. وهو ما ضمن لها البقاء طوال هذه السنين. وعلى الجانب الآخر نجد الصين ومعها بعض الدول مثل روسيا تعمل جاهدة على خلق نظام عالمي يركز على ضرورة احترام التعددية ويقوم على التشاركية وفقاً لمفهوم أن الجميع يجب أن يكون مسؤولاً في ضمن احترام خصوصيات الدول ومكانتها العالمية السياسية والاقتصادية والثقافية، لذلك نجدها لا تتوانى عن خلق ترتيبات مشتركة فيما بينها مثل منظومة مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون لتمثيل وجهة النظر هذه. وهذه سمة بارزة لعالم اليوم، حيث تبرز دول الجنوب تحت قيادة صينية بالدرجة الأساسية- كما يراها الغرب والولايات المتحدة بالذات.

وبينهم جميعاً تأتي نظرة الرئيس ترامب لجعل النظام الدولي نظام قائم على أساس القوة، بمعنى أن الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم يجب أن تبقى كذلك ويجب أن تستمر التعاملات والتفاعلات الدولية في سبيل إبقاء وعدم تجاهل هذه الخصوصية، فالولايات المتحدة وفقاً لهذه النظرة هي القوى الأعظم التي يجب ألا ينافسها أحد، رافضةً بذلك وجهة النظر الأوروبية ووجهة النظر الصينية الروسية أو نظرة دول عالم الجنوب في هذا الخصوص. فلا صوت يعلوا على صوت الولايات المتحدة، ولا أحد يجب أن يشارك الولايات المتحدة في قيادة العالم، كما يراها ترامب.

 فنحن إذاً أمام صراع أو تنافس واضح بين ثلاث أفكار أو مشاريع عالمية رئيسية: فكرة أوروبية تدعوا لسيادة القانون، وفكرة صينية تدعوا لسيادة مفهوم التعاون والاحترام المتبادل، وفكرة أمريكية تدعوا إلى سيادة الولايات المتحدة وهيمنتها على النظام العالمي. بين هذه الأفكار تتجاذب الرؤى والمعطيات، ومعها ينقسم العالم بين هذا وذاك، والكل يقدر مكانته وموقفه وفقاً لقوة تلك الأفكار. وبينما تتراجع قوة الفكرة الأوروبية يتعاظم التحدي بين الفكرتين الأمريكية والصينية، ولعل التراجع الأوروبي لا يصب في صالح الفكرة الأمريكية التي لطالما كانت تعتمد على الدعم الأوروبي في تعزيز هيمنتها العالمية. فقوة الولايات المتحدة كانت دائماً تعتمد على أوروبا والحضور الأوروبي الداعم لها، وبالأخص في مواجهة الصاعدين من الجنوب ولاسيما الصين وروسيا. فالولايات المتحدة هي المسؤولة الأولى عن تراجع قوة الاتحاد الأوروبي من خلال تعامل ترامب مع حلفائه الأوروبيين كمنافسين وليس كشركاء وحلفاء مساعدين لقيادة الولايات المتحدة للعالم.

دول العالم الأخرى تقف بين هذه الأفكار أو المشاريع الثلاث وتحاول قدر الإمكان الاستثمار فيما يُفيدها. فهناك من يميل إلى الفكرة الأمريكية، وهناك من يميل إلى الفكرة الصينية-الروسية، وهناك من يستثمر قدر الإمكان في الأفكار تلك لتحقيق مصلحته وفقاً ما يراه مناسب له. وهذا الفريق هو الفريق الأكبر بين دول العالم التي ترى في التنافس القائم بين الولايات المتحدة والصين مصلحة لتحقيق بعض المكاسب أو الاستثمار فيه لصالح ما تراه مناسباً لها. إلا أن الواضح أن هذا التنافس إذا لم يتم ضبطه بطريقة أكثر اتزاناً وحكمة فإنه سيسهم في احداث تغيرات جذرية سلبية للازدهار والأمن العالميين. فالفكرتين الأمريكية والصينية تدخل في مرحلة حرجة من التنافس المتصاعد الا مسؤول، على ما يبدو؛ مما ينذر بكارثة قادمة. فهل من تحرك أكثر عقلانية وحكمة؟ نأمل ذلك، ولكن من سيأتي بالخطوة الأولى بين واشنطن وبكين؟ الإجابة قد تكون صعبة، إلا أن الحكمة تتطلب أن يفعل أحدهما شيء في هذا السبيل.


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-05-30 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره