مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-02-02

الأدب الشفاهي للحرب .. قصص قصيرة يبدعها المقاتلون

في تاريخ الإنسانية تم تصوير الحروب على أنها ملاحم كبرى، يمكن أن تصاغ شعرا في آلاف الأبيات التي بوسعها أن تشكل مئات القصائد، أو تكتب نثرا في حوليات أدبية، إن صح التعبير، تحوي آلاف الصفحات، التي تتحدث عن البطولات العظيمة التي خاضها فرسان استثنائيون، ربما لم تعنهم الحياة وقت المعركة في شيء سوى تحقيق الانتصار الكبير، الذي يخلد أسماءهم، أو يجعل بلدانهم تقدرهم خير تقدير على ما قدموه في سبيل الوطن من كفاح وتضحيات.
 
 
بقلم:د. عمار علي حسن
 
لكن أيا من هذه الملاحم لم يعن كثيرا بالبطولات الصغيرة التي شكلتها، أو نبتت على ضفافها، وبوسعنا أن نرى كل منها بمنزلة قصة قصيرة أو حكاية فردية، ولنقل ذاتية، عن الذين قاتلوا في بسالة وانتصروا، ومن بينهم الذين استشهدوا، أو أولئك الذين أصيبوا، وبقوا على قيد العيش مع الناجين، ليحكوا لنا كل ما مروا به وكابدوه، وليس أمامنا نحن الغائبين عن ساحة المعركة سوى الإنصات إليهم، لأنهم وحدهم الذين خاضوا التجربة في أعمق وأدق معانيها وحال وجودها أو حضورها الطاغي.
 
لكن ليس بوسع أي من هؤلاء أن يحكي لنا كل ما جرى، طولا وعرضا، وشرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، إنما يمكنه أن يسرد، ووقتها نصدق من زاوية وطنية أو إنسانية، ما جرى له كفرد، رأى ما وقع، وهو ينخرط فيه بكل كيانه، وينشغل ذهنه بساحة القتال العريضة بحثا عن نصر فيها، وتشتعل مشاعره بكل ما يحفظ حياته، ويردي عدوه، وتذهب عيناه إلى الرايات المرفوعة في بلاده، التي تنتظر منه أنه يعود مظفرا.
 
إن الملاحم الكبري تلك ما كان لها أن تكون إلا إذا كانت هناك حكايات صغيرة أو مفصلة أو ذاتية تخص أولئك الذين كانوا في ميادين القتال، ولم ينتظر أغلبهم شيئا سوى أن ينتصر لبلاده، دون أن يفصل في داخله هذا عن وجوده، لاسيما إن الفهم والتصور والتكنيك العسكري قائم على أساس الحفاظ على حياة المقاتل، أيا كان موقعه ومكانه، فله وحده صممت الخطط القتالية، وصنعت أدواتها من المسدس إلى الصاروخ.
 
بذا فإن ما يسمعه المقاتل ويراه ويلمسه ويشمه ويتذوقه لا يمكن تجاهله ونحن نؤرخ  للحرب، فهي إن كانت رواية طويلة أو ملحمة، فإن صورتها الكلية لا يمكن أن تستقيم إلا إذا شارك في صناعتها المقاتلون الأفراد الذين خاضوا المعارك بالفعل، في النجاد أو الوهاد، ثم علينا أن ننصت إلى كل ما قالوه لنا، أو استغرقوا في روايته عما فعلوه وسط النيران والدماء والضجيج الهائل.
 
إن الحروب، لاسيما الحديثة والمعاصرة، لا تخاض إلا في ظل خطة حربية محكمة، ينتظم الأفراد في تنفيذها، ويصبح لكل منهم دور محدد في هذا، يجب عليه ألا يتعداه، وإلا يكون قد خالف الأوامر، أو تصرف بما لم تحدده القيادة الميدانية، وفي هذا مخاطرة لا يقدر هو آثارها، لأنه وهو يؤدي دوره المرسوم المحتوم عسكريا لا تتوافر له كافة المعلومات عن الخطة الكاملة، ولا يعرف كل التفاصيل التي تجري في مسرح العمليات بطوله وعرضه.
 
لكن مهما كان تحكم القادة وسيطرتهم على الميدان، وهو أمر ضروري في أي معركة، فإن لكل فرد مقاتل حكايته، حتى لو خاض مع رفاقه تجربة واحدة، ومارسوا الفعل نفسه، فهو في النهاية يسمع بأذنيه، ويرى بعينيه، ويعمل بيديه، ويقدر ما يجري وفق تصوره الخاص النابع من خبرته وما في رأسه من معارف، وفي وجدانه من قيم، وما يدركه من تصورات هي بنت خبرته وثقافته، ولذا فإن طلبنا منه بعد أن تضع الحرب أوزارها، أو حتى أثناء دوران المعارك أن يحكي لنا تجربته فسيقصها على أسماعنا بطريقة تختلف عن رفيق سلاحه.
 
إننا لا نقصد بهذه القصص تلك التي يبدعها أدباء شاركوا في المعارك، مثلما حدث في كتابات أمم كثيرة تحت عنوان عريض اسمه «أدب الحرب»، لكننا نرمي مباشرة إلى  الشهادات والإفادات الشفهية التي يدلي بها الجنود والضباط المقاتلون، أو تلك التي يمكن أن يدونوها على هيئة «يوميات» في مذكراتهم الخاصة، وبوسع بعضهم أن يسعى إلى نشرها فيما بعد، إن تهيأت الظروف لهذا.
 
إن المعارك كلها يمكن التعبير عنها أدبيا في عمل ملحمي كبير مثلما تناول ليو تولستوي الحرب النابليونية ضد روسيا القيصرية في روايته الضخمة «الحرب والسلام»، ويمكن أن تكتب بعيدا عن الأدب في مذكرات سردية للقادة العسكريين أنفسهم، أو توجد في التقارير والوثائق الميدانية التي تجمع كأرشيف رسمي كامل للحرب، وفي التغطيات المتلاحقة للمراسلين الحربيين، لكننا لا نقصد أيضا كل ذلك في هذا المقام، إنما نقصد نثار الحكايات وأشتاتها، التي يعبر عنها المقاتلون سردا بعد أن تسكت المدافع.
 
إن كثيرا من هذه الحكايات تصفو وتنجلي بعد مرور السنين، وعودة الجنود إلى حياتهم الميدانية منغمسين في أعمالهم المدنية وتربية أولادهم وأسفارهم وأوقات فراغهم، ويؤدي انجلائها إلى التخلص من تفاصيل كثيرة غارت في الذاكرة، لتخلص الحكايات من العوالق والشوائب التي قد تكون بنت الهواجس والمخاوف والرغبات والبطولات والعواطف بما تنطوي عليه من ميول وانحيازات، وبذا يمكن لصاحبها أن يستعيدها على نحو مكثف أمام سامعيه، أو يكتبها على الورق فيقرأها الناس، وتصير في كل الأحوال جزءا من التاريخ العسكري الاجتماعي للأمم والدول.
 
وبالطبع فإن الفرد الواحد لا يسرد حكاية/ قصة واحدة، فهو، على قدر مدة انخراطه في القتال أو أعمال الإمداد والتموين والاستطلاع، يكون قد سمع ورأي وعمل الكثير من الأفعال، وقابل شخصيات عدة، من رفاقه، أو حتى من أعدائه، الذين كانوا يحرصون على قتله بقدر حرصه على قتلهم في الميدان.
 
ولا يمكن لأحد من هؤلاء أن يستعيد الوقائع والمجريات كما هي، لاسيما بعد مرور زمن طويل على حدوثها، إنما قد يختلط بها شيء من مخيلته، وربما رغباته وأشواقه في تصوير دوره على نحو معين. وما تجود به المخيلة هنا على الحكاية الأصلية من حمولات يضفي نوعا من الأدبية على تلك الحكايات، إذ تفارق طابعها التسجيلي، وتخرج مشبعة بقدرة صاحبها على الحكي، وما يعطيه له من أسلوب سرد يمتلكه ومعان وإدراكات ومفاهيم وتقديرات تتسربل بها القصص المحكية.
 
وكثير من هذه القصص تتدفق إلى الصحافة، كلما جاءت ذكرى الحرب، إذ أن الأمم المنتصرة تحرص على إنعاش ذاكرة الشعوب بما جرى، خاصة إن كانت أسباب العداء أو الصراع أو النزاع لا تزال قائمة، أو بمعنى أدق كان الطرف الذي حاربته دولة ما استمر يشكل عدوا في العقيدة القتالية لجيشها. من هنا تنتقل الحكايات من مجال الشفاهي إلى الكتابي، وهي ترد بالطبع إلى ألسنة المقاتلين، أو تنسب إليهم حين تنتقل من راو إلى آخر. ويمكن لهذا الانتقال أن يحدث شفاهة أيضا، فالذين خاضوا المعارك يحكون تجربتهم الصعبة تلك، أو ما تبقى منها في ذاكرتهم، لأولادهم وأحفادهم، وهؤلاء ينقلونها بالطريقة التي تحلو لهم إلى غيرهم.
 
من أجل هذا تكون الحروب منبعا لحكايات عديدة، ولأنها ولدت في أوقات استثنائية بالنسبة لكل مقاتل، فإنها تظل محفورة في ذاكرته أكثر من حكايات أخرى صنعتها أفعاله في حياته الاعتيادية المفعمة بالتفاصيل المتتالية والمتناثرة. كما تلقى حكايات الحروب حرصا أشد على تسجيلها واستعادتها بطرق متعددة، لتتدفق في شرايين المجتمعات الإنسانية، وتستقر حية في القيعان البعيدة، لتثار من آن إلى آخر، فتحضر من غياب، وتستيقظ من سبات لا يطول أبدًا.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره