مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-02-01

الفاعلون المسلحون من غير الدول: الوضع الراهن وآفاق المستقبل

تصاعدت ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين، وقد أصبح هؤلاء الفاعلون يمثلون تحديات جوهرية للأمن والاستقرار على الصعيد الوطني في عديد من الدول، وكذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي. وثمّة أمثلة عديدة على ذلك، من أبرزها: أنه قبل نحو عشرين عامًا، قام «تنظيم القاعدة» بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وعلى أثر هذه الهجمات تبنّت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية الحرب ضد الإرهاب، وهي حرب ممتدة، حيث لا تزال حلقاتها تتواصل حتى الآن.
 
 
بقلم: د. حسنين توفيق إبراهيم 
استاذ العلوم السياسية بجامعة زايد - الإمارات
 
 
وعلى الرغم من الضربات الأمنية الموجعة التي وُجهت إلى «تنظيم القاعدة»، فإنه حافظ على استمراريته حتى الآن، ولا يزال قادرًا على تنفيذ عمليات إرهابية، ومن المفارقات الكبرى، أنه قبيل حلول الذكرى السنوية العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر بأيام قليلة تمكّنت حركة طالبان من السيطرة على السلطة في أفغانستان مرة أخرى، وذلك على خلفية الانهيار السريع للجيش الأفغاني، والانسحاب الكارثي والفوضوي للولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، وهو انسحاب أضر كثيرًا بسمعة الولايات الأمريكية ومكانتها كقوة عظمى، حيث أعاد إلى الأذهان ذكريات الانسحاب من فيتنام.
وخلال الفترة بين عامي 2013 و2017، سيطر تنظيم «داعش» على مساحات كبيرة من أراضي كل من سوريا والعراق، ولم تتم هزيمة التنظيم عسكرياً في الدولتين إلا من خلال حملة عسكرية واسعة، شاركت فيها أطراف عديدة، محلية وإقليمية ودولية، كان في مقدمتها التحالف الدولي لمحاربة «داعش» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم الهزيمة العسكرية للتنظيم في كل من سوريا والعراق، فإنه لا يزال يشكل تحدياً كبيراً، حيث تحول إلى شبكة جهادية إرهابية عابرة لحدود الدول. وفي عام 2014، تمكّن الحوثيون (جماعة أنصار الله) من السيطرة على العاصمة صنعاء، وبعد ذلك قاموا بإقصاء الحكومة الشرعية والسيطرة على السلطة، ومنذ مارس 2015، يخوض الحوثيون حربًا ضد الجيش اليمني المدعوم من جانب تحالف دعم الشرعية في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية. 
وفي ضوء ما سبق، فإن الهدف من هذا المقال هو تسليط الضوء على ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول من حيث التعريف بالمفهوم، وتحديد أشكال الفاعلين المسلحين الأكثر انتشارًا في العالم العربي، فضلًا عن تحليل أسباب تصاعد هذه الظاهرة، وآفاقها المستقبلية. 
 
 
أولًا: التعريف بمفهوم الفاعلين المسلحين من غير الدول
يُشير مفهوم الفاعلين المسلحين من غير الدول في أوسع معانيه إلى «تنظيمات أو جماعات مسلحة أو شبكات إجرامية منظمة، تُمارس أنشطتها بعيدًا عن سيطرة الدولة، وتستخدم القوة من أجل تحقيق أهدافها، وهي تتحدى بذلك مبدأ احتكار الدولة لحق الاستخدام المشروع للقوة». وانطلاقاً من هذا التعريف النظري، تتمثّل أهم ملامح الفاعلين المسلحين من غير الدول في ثلاثة عناصر رئيسة، أولها: عنصر التنظيم، وهو ينطوي على عناصر فرعية عديدة، مثل وجود اسم محدد للتنظيم (الفاعل المسلح من غير الدول)، ووجود بنية تنظيمية أو هيكل تنظيمي له، وهذا الهيكل التنظيمي قد يكون ذا طابع هيراركي أو شبكي أو يجمع بين الاثنين، فضلًا عن وجود نوع من القيادة على مستوى التنظيم. وثانيها: العمل خارج سيطرة الدولة، حيث إن الفاعلين المسلحين من غير الدول هم تنظيمات غير قانونية، وليسوا جزءًا من المؤسسات الرسمية للدولة ذات الصلة بالحماية والأمن، مثل الجيش النظامي والبوليس والحرس الجمهوري والحرس الوطني. وثالثها: استخدام القوة من أجل تحقيق الأهداف، حيث يعتمد الفاعلون المسلحون من غير الدول على استخدام القوة، أو على الأقل التهديد باستخدامها، من أجل تحقيق أهدافهم. 
 
 
واستنادًا إلى هذا التعريف، يشهد العالم في الوقت الراهن عدة أنماط من الفاعلين المسلحين من غير الدول، من أبرزها: المنظمات الإرهابية، والتنظيمات الجهادية المسلحة، وعصابات الجريمة المنظمة، والميليشيات المسلحة، والتنظيمات شبه العسكرية، وحركات التمرد، والحركات الانفصالية، وأمراء الحرب، وميليشيات المرتزقة... إلخ. وثمّة عدة مؤشرات يعتمد عليها الباحثون في تصنيف الفاعلين المسلحين من غير الدول، من أهمها: هويات هؤلاء الفاعلين، والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، وطبيعة هياكلهم التنظيمية، والنطاق الجغرافي لأنشطتهم، وأنماط علاقاتهم مع كل من الدولة والمجتمع، ومصادر تمويلهم. 
 
 
ثانيًا: الفاعلون المســلحون من غير الدول الأكثر انتشارًا في العالم العربي
على الرغم من أن ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول هي ظاهرة عالمية، فإن العالم العربي يُعد من أكثر مناطق العالم التي ينتشر فيها الفاعلون المسلحون من غير الدول في الوقت الراهن، وهذه الظاهرة ليست جديدة على العالم العربي؛ حيث إن تنظيمات مثل «حزب الله» في لبنان، و «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) في الأراضي الفلسطينية، وتنظيم «القاعدة» بفروعه المنتشرة في عدة بلدان، عربية وغير عربية، ظهرت منذ ثمانينيات القرن العشرين وحافظت على استمراريتها حتى الآن. 
 
 
ولكن الجديد الذي طرأ على هذه الظاهرة خلال العقد الأخير (مرحلة ما بعد الربيع العربي) يتمثّل في الزيادة الكبيرة في عدد الفاعلين المسلحين من غير الدول، ووجود تنوع كبير في خريطة هؤلاء الفاعلين؛ حيث توجد تباينات واضحة فيما بينهم من حيث الهويات والأيديولوجيات، والأهداف والاستراتيجيات الحركية، والهياكل التنظيمية، ونمط القيادة، ومصادر التمويل، والقدرات العسكرية، والنطاق الجغرافي للأنشطة والحركة. وبسبب هذا التعدد والتنوع في خريطة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي، فقد باتت عملية تصنيفهم صعبة ومعقدة. 
وبصفة عامة، يمكن تصنيف الفاعلين المسلحين من غير الدول الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في العالم العربي إلى عدة أنماط، أولها: التنظيمات الهجينة متعددة الهويات والأدوار، مثل “حزب الله”، وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”. وثانيها: التنظيمات الجهادية الإرهابية سواء تلك التي تتسم بطابع محلي، أي التي تنشط على الأصعدة الوطنية، أو التنظيمات العابرة لحدود الدول، مثل “داعش” و”القاعدة”. وثالثها: الميليشيات المسلحة التي تستند إلى أسس عرقية أو طائفية أو قبلية، ورابعها، تنظيمات وشبكات الجريمة المنظمة. 
 
 
ويشير مفهوم «التنظيمات الهجينة» إلى الفاعلين المسلحين من غير الدول الذين يتميزون بطبيعة مركبة أو هجينة، حيث يستند التنظيم في هذه الحالة إلى أكثر من هوية، ويقوم بعدة أدوار في الوقت نفسه، ويمثِّل «حزب الله» في لبنان نموذجًا لذلك، فهو حزب سياسي، يمتلك قدرات عسكرية كبيرة، ولديه جهاز تنفيذي وإداري ضخم يتولى إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته، كما أن للحزب أجهزته ومؤسساته الإعلامية، وينتهج سياسة خارجية خاصة به، كثيرًا ما تتعارض مع السياسة الرسمية للدولة اللبنانية، وإذا كان الحزب يصنف نفسه كحركة مقاومة، فإن دولًا عربية وغير عربية ومنظمات إقليمية ودولية تصنفه على أنه منظمة إرهابية. 
 
 
ثالثًا: أســـبـاب تـصـــــاعــد ظـاهـــــــرة الفاعلين المسلحين من غير الدول 
ثمّة عدة عوامل تفسر تصاعد ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي، يمكن تلخيص أهمها فيما يلي: 
أزمة بناء الدولة الوطنية: على الرغم أن هذه الأزمة لها جذورها التاريخية، البعيدة والقريبة، فإنها تصاعدت بشكل حاد في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”؛ حيث أفضت تداعياته الكارثية إلى تصدُّع الدولة الوطنية في بعض البلدان العربية، أو استمرارها في حالة من الضعف والهشاشة في عديد من البلدان الأخرى. وعندما تتفكك السلطة المركزية، وتنهار أجهزة الدولة ومؤسساتها، فإنها تعجز عن فرض سيطرتها على إقليمها وتأمين حدودها، وتفشل في ممارسة احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة الذي يُعد من أهم خصائص الدولة الوطنية. وكل ذلك وغيره يجعل أجزاء ومناطق من إقليم الدولة خارج سيطرتها، مما يخلق حالة من الفراغ السياسي والأمني تسمح بظهور الفاعلين المسلحين من غير الدول، وتَمدُّد أنشطتهم وأدوارهم.
 
 
استعانة بعض الحكومات بالميليشيات المسلحة في صراعاتها الداخلية: في خضم التحديات الأمنية والحروب الأهلية والصراعات الداخلية التي شهدتها دول عربية عديدة خلال العقد الأخير، اتجهت بعض الحكومات إلى الاستعانة بفاعلين مسلحين من غير الدول، الأمر الذي عزز من أدوارهم. فعلى أثر انهيار الجيش العراقي، وسقوط مدينة الموصل في قبضة «تنظيم داعش» في عام 2014، استعانت حكومة «المالكي» ببعض الكتائب والتنظيمات المسلحة العراقية الموالية لإيران للمشاركة في الحرب ضد التنظيم، وكانت تلك بداية لتشكيل ما يُعرف بـ «قوات الحشد الشعبي». وفي ليبيا، اعتمدت حكومة «فايز السراج» على عدد من الميليشيات المسلحة في حربها ضد الجيش الوطني بقيادة المشير «خليفة حفتر». وفي سوريا، استعان النظام بعدد من الفاعلين المسلحين من غير الدولة لتعزيز موقفه العسكري في مواجهة خصومه. وفي اليمن، هناك عدد من الفاعلين المسلحين من غير الدول الذين يخوضون الحرب ضد الحوثيين، ولكن ليس تحت غطاء الجيش اليمني. 
 
 
الدعم الخارجي لفاعلين مسلحين من غير الدول: لقد لعبت أطراف خارجية دورًا مهمًا في تعزيز ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في المنطقة العربية، وذلك من خلال تقديم الدعم المالي والعسكري لهؤلاء الفاعلين، وفي المقابل توظف الأطراف المعنية أدوار هؤلاء الفاعلين في خدمة أهدافها وسياساتها الإقليمية. وتُعد إيران من أبرز الرعاة الخارجيين لفاعلين مسلحين من غير الدول في العالم العربي؛ حيث قدَّمت -وتقدم- دعمًا ماليًا وعسكريًا لتنظيمات عديدة، مثل: «حزب الله» في لبنان، و»حركة حماس» في قطاع غزة، وعدد من الفصائل المسلحة الموالية لها في العراق، وفي مقدمتها «كتائب حزب الله»، فضلًا عن الحوثيين في اليمن. كما قدَّمت تركيا دعمًا ماليًا وعسكريًا لفصائل سورية مسلحة موالية لها ومعارضة لنظام «الأسد»، وقدَّمت كذلك دعمًا كبيرًا للميليشيات المسلحة الليبية التي ساندت حكومة «السراج»، ناهيك عن قيامها بإرسال آلاف المرتزقة السوريين إلى ليبيا. كما قدَّمت الولايات المتحدة الأمريكية دعمًا عسكريًا كبيرًا لـ «قوات سوريا الديمقراطية»، مما مكّنها من القيام بدور مهم في هزيمة «تنظيم داعش» في سوريا.
 
 
تمدُّد ظاهرة اقتصاد الحرب: يمثِّل المتغير الاقتصادي بعدًا مهمًا في فهم وتفسير أسباب ظهور الفاعلين المسلحين من غير الدول، وتمدُّد أدوارهم في عديد من البلدان العربية، وبخاصة تلك التي تعاني من الصراعات الداخلية، كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها، فالفصائل المسلحة المنخرطة في الصراع في كل من البلدان المذكورة سعت -وتسعى- إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، فإحكام السيطرة على جانب من الموارد الاقتصادية للدولة يعزز من قدرة التنظيم المسلح على تمويل عملياته وضمان استمراريته على الساحة، وقد أسهم ذلك في خلق ما يُسمى بـ «اقتصاد الحرب»، وهو يرتبط بإدارة العنف وإطالة أمده، باعتبار أن الفاعلين المسلحين من غير الدول لا يستطيعون تحقيق مكاسب اقتصادية ومالية في حالة وجود دولة قوية تحتكر حق الاستخدام المشروع للقوة، وتقوم بوظائفها بفاعلية وكفاءة، ومن هنا تقوم هذه التنظيمات المسلحة بتخريب محاولات وجهود التسويات السياسية. 
 
 
رابعاً: مستقبل ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي
هناك عدة عوامل ومحددات حاكمة لمستقبل ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي:
أولها: إنهاء الحروب والصراعات الأهلية الدائرة في عدد من الدول العربية وفق مصالحات وطنية شاملة وتسويات تاريخية، تحظى بمشاركة وقبول مختلف الأطراف الفاعلة والمؤثرة على الصعيد المحلي من ناحية، ودعم ورعاية الأمم المتحدة وغيرها من الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بشؤون المنطقة من ناحية أخرى. 
 
 
وثانيها: وضع وتنفيذ خطط وبرامج ناجزة من أجل إعادة بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها، شريطة أن يستند ذلك إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على أسس ومبادئ المواطنة، وسيادة القانون، ودولة المؤسسات، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق العدالة الانتقالية، وحل جميع التنظيمات المسلحة، مع إدماج بعض عناصرها في الجيش الوطني والأجهزة الأمنية، وفق شروط وترتيبات معينة. 
 
 
وثالثها: وضع وتنفيذ خطط وبرامج جادة لإعادة إعمار ما دمرته الحروب، سواء على مستوى البنى والمرافق التحتية، أو مساكن المواطنين، أو قطاع التعليم، أو قطاع الرعاية الصحية.. إلخ. وهذا يتطلب إنشاء مؤسسات وطنية فعالة تتولى مسؤولية إعادة الإعمار من ناحية، وتوفير الدعم المالي اللازم لتمويل هذه العملية سواء من مصادر محلية أو دولية أو الاثنين معًا من ناحية أخرى. وهذه العملية سوف تسمح بإعادة النازحين والمهجرين إلى مدنهم. 
 
 
ورابعها: التحرك بفاعلية على طريق تعزيز الحوكمة والحكم الرشيد في العالم العربي، وبخاصة فيما يتعلق بتعزيز المشاركة السياسية، ومحاربة الفساد، وتوفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث تؤكد الخبرات المقارنة أن ظواهر وممارسات الاستبداد والفساد، وغياب العدالة الاجتماعية، تخلق بيئات ملائمة لظهور وتمدُّد الفاعلين المسلحين من غير الدول. 
 
 
وخامسها: تعزيز الاستقلال الوطني ووضع حد للتدخلات الخارجية (الإقليمية والدولية) في الشؤون الداخلية للدول العربية، وبخاصة في مرحلة ما بعد الصراع. فقد كشفت خبرة السنوات القليلة الماضية أن الحروب الأهلية التي عرفتها بعض الدول العربية تحولت من الناحية العملية إلى حروب بالوكالة؛ حيث تدخلت فيها أطراف إقليمية ودولية عديدة وفق أجندتها ومصالحها، الأمر الذي جعل ديناميات هذه الصراعات وآفاقها المستقبلية محكومة في المقام الأول بالتجاذبات والاختلافات والتوازنات بين القوى الإقليمية والدولية التي انخرطت في كل منها.  
 
 
وفي ضوء المحددات سالفة الذكر، فإن السيناريو المرجَّح لمستقبل ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي هو استمرار هذه الظاهرة في عديد من البلدان العربية خلال الأجلين القصير والمتوسط على الأقل، حيث إن جميع المحددات المذكورة أعلاه تعمل في اتجاه تحقيق هذا السيناريو. فجهود ومحاولات التوصل إلى تسويات سياسية في كل من ليبيا وسوريا واليمن لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن؛ بسبب عمق الخلافات والانقسامات بين الفرقاء السياسيين في الداخل من ناحية، وعمق الانقسامات بين الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالصراع في البلدان المعنية من ناحية أخرى.
 
 
وبدون إنهاء هذه الصراعات استنادًا إلى مصالحات وطنية شاملة وتسويات تاريخية مقبولة فإنه لا مجال للحديث عن إعادة الإعمار، أو إعادة بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها، أو تعزيز الاستقلال الوطني. وفي ظل هذا الوضع سوف تتحول الصراعات المعنية إلى صراعات ممتدة تضرب بجذورها في البنى والهياكل الاجتماعية والثقافية على غرار الحالة الصومالية. كما أن عملية تأسيس وترسيخ الحوكمة والحكم الرشيد على الصعيد العربي تُجابه الكثير من العقبات والتحديات، وبخاصة في ظل تداعيات ما بعد “الربيع العربي». 
 
 
ولكن حتى بافتراض التوصل إلى تسوية ما في هذه الدولة أو تلك، فإن عملية إعادة الإعمار، وإعادة بناء أجهزة الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة سوف تظل محفوفة بكثير من المحاذير والتحديات، وبخاصة في ظل اتساع مظاهر الدمار والخراب التي خلّفتها الحروب. ويمثِّل العراق حالة نموذجية بهذا الشأن، فرغم أن العراق دولة نفطية لديها مواد مالية مناسبة، فإن جهود ومحاولات إعادة الإعمار، وإعادة بناء الدولة العراقية على أسس جديدة تعثرت خلال السنوات الماضية؛ بسبب استشراء الفساد، وعمق الانقسامات الطائفية والعرقية، وتدخل بعض القوى الإقليمية في الشأن الداخلي العراقي. ونتيجة لذلك فقد تمكّن تنظيم «داعش» من احتلال مساحات واسعة من العراق بين عامي 2014 و2017، ورغم الإعلان عن هزيمة التنظيم عسكريًا في عام 2017، فإنه لا تزال الدولة العراقية تتخبط في أزماتها البنيوية. ولن يكون الوضع في دول مثل اليمن وسوريا وليبيا أكثر سهولة من الحالة العراقية. 
 
 
كما أن الهزيمة العسكرية لـ «داعش» في كل من سوريا والعراق وليبيا، أو الهزيمة العسكرية للحوثيين في اليمن (في حال حدوثها) لا تعني بحال من الأحوال انتهاء الصراعات الداخلية طالما ظلّت أسبابها قائمة دون حلول جذرية دائمة. ففي ظل وضع كهذا قد يختفي بعض الفاعلين المسلحين لأسباب مختلفة، ولكن سيظهر بالمقابل فاعلون آخرون بمسميات جديدة، وتبدأ دورة جديدة من الصراع والعنف وهكذا. وتؤكد خبرة التنظيمات الجهادية الإرهابية على هذه الحقيقة بوضوح، حيث إنه كثيرًا ما اندثرت تنظيمات جهادية مارست العنف والإرهاب لفترة من الزمن، ثم أعقب ذلك ظهور تنظيمات أخرى كانت في الغالب أكثر تشددًا وتطرفًا من سابقتها، الأمر الذي يفسر تواصل هذه الظاهرة منذ سبعينيات القرن العشرين. 
 
 
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الهزيمة العسكرية لتنظيم «داعش» في كل من سوريا والعراق لا تعني بحال من الأحوال نهاية التنظيم ونهاية أيديولوجيته التكفيرية؛ حيث لا يزال التنظيم قادرًا على شن عمليات إرهابية داخل كل من سوريا والعراق وخارجهما، مما يؤكد امتلاكه لخلايا نائمة منتشرة في عديد من الدول والمناطق. ولا شك أن استمرار الحروب الأهلية وما يقترن بها من تصدعات للدول الوطنية يمثِّل فرصة مواتية للتنظيم لإعادة تجميع صفوفه، وتصعيد عملياته من جديد. 
 
 
وختامًا، إن الحديث عن حل الميليشيات والتنظيمات المسلحة، ونزع أسلحتها، وإعادة دمج بعض عناصرها في القوات النظامية في دول مثل، سوريا وليبيا واليمن يصبح بلا معني في ظل عدم وجود تسوية سياسية مقبولة تمثِّل أرضية ملائمة لذلك، وسلطة قوية تحظى بدعم محلي ودولي حقيقي، بحيث تكون قادرة على تنفيذ استحقاقات ومتطلبات مرحلة ما بعد الصراع، وبخاصة فيما يتعلق بإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية على أسس وطنية احترافية، ونزع سلاح الميليشيات، وتنفيذ خطط عملية جادة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتأكيد الطابع المدني للدولة من خلال تطبيق أسس ومبادئ المواطنة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وبدون توفير هذه الشروط والمتطلبات، سوف تظل الدول الضعيفة/الهشة والمتصدعة تمثِّل بيئات ملائمة لتمدد أنشطة الفاعلين المسلحين من غير الدول، ومن ثمَّ تبقى مصادر لتهديد الأمن والاستقرار، ليس في الدول المجاورة لها فحسب، بل على المستويين الإقليمي والدولي.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره