مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2017-06-04

بناء الدولة في أوضاع غيـر مستقرة

إن بناء الدول عملية شاقة ومعتمده تستغرق فترات طويلة تعد بعشرات أو مئات السنين وتحتاج إلى وجود مقومات ومصادر وموارد لا تكتمل عملية البناء بدونها ، ولنتمكن من فهم آلية البناء هذه أثناء وتحت أوضاع غير مستقرة يجب علينا أولا تعريف مفهوم الدولة بأبعاده الشاملة ، فالدولــة تُعرف بأنهــا “ كيان أو تجمع سياسي يمتلك الاختصاص السيادي في نطاق إقليمي ودولي محدد ، وتظهر سيادة الدولة من خلال منظومة من المؤسسات السيادية تُمثل الجانب التشريعي والقانوني والجانب التنفيذي والجانب الرقابي مما يُمكننا من تصنيف الدول كأن نقول دولة مؤسسات أو دولة الحزب الــواحد ودولة أخرى نقول عنها دولة ديمقراطية وأخرى نقول عنها دولة ديكتاتورية “، فمسميات الدول تختلف باختلاف أنظمة الحكم والموقع الجغرافي والقـــدرات ومنظومة العلاقات الدولية .
 
بقلـم: العميد الركن دكتور / مبارك سعيد الجابري
 
تحديات بناء واستقرار الدولة 
من خلال متابعة التغيرات السريعة والتحولات في منظومة العلاقات الاقليمية والدولية والتي تلعب دوراً كبيرا في بناء واستقرار الدول علينا التوقف عند الحقائق والمعطيات التالية والتي من شأنها التأثير على استقرار الدول بعد أن أصبحنا نرى ونسمع أن هناك دول متهالكة ودول آيلة للسقوط ودول مُثقلة بالديون والامراض والفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية ، ودول لا تملك إدارة أزماتها ولا حتى إدارة مؤسساتها، وهنا نطرح السؤال التالي : 
 
هل يمكن بناء دولة المؤسسات في ظل المتغيرات والتحديات التالية : 
أ.   التحولات في التحالفات الاقليمية والدولية وتهديدات الفضاء الالكتروني وانعكاس التطور التكنولوجي على كل مناحي الحياة ، بما فيها تماسك مكونات المجتمع الواحد في ظل الغزو الفكري والثقافي العابر للحدود ووفرة وسائل التواصل الاجتماعي والثورة الإعلامية العالمية الحالية . 
 
ب.   النمو السكاني وزيادة الطلب على الماء والغذاء وظهور تحديات البيئة وشح الموارد واتساع جغرافيا الجوع في العديد من الدول بالإضافة الى تدفق اللاجئين الى معظم دول العالم بسبب الحروب والصراعات الطائفية والحروب المذهبية .
 
جـ.   ظهور حروب الجيل الرابع والخامس التي اصبحت تُركز على توظيف الشبكات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية للحد من طموحات الدول لتحقيق مصالحها وخدمة شعوبها، حيث تهدف هذه الحروب الى ازالة الحدود بين الدول من خلال الارهاب والعنف الذي يضرب في كل مكان وضعف إرادة الدول في اتخاذ قرارات حاسمة . 
 
د.   إن التحدي الاكبر لبناء الدول هو الاوضاع الغير مستقرة التي تُعاني منها بعض دول العالم التي ظهرت فيها حروب غير مُقيدة مثل المخدرات والحروب الطائفية والتحكم بمواردها من قوى اقليمية ودولية وإثارة الرأي العام واظهار فشل الدولة، واستهداف قادة هذه الدول بدل من استهداف القوات العسكرية الميدانية، وما يجري الآن في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول ما هو إلا ترجمة حقيقية للأوضاع غير المستقرة والتي ساهمت في التأثير على بناء الدولـــة الحديثـــة .
 
هـ.   إن بناء الدولة يتطلب أن يكون هناك مقومات أساسية منها توفر مركز ثقل واضح للدولة وأن تكون العلاقة بين مكونات /عناصر الدولة الثلاث علاقة تكاملية فلا يُمكن أن تبقى الدولة مستقرة إذا لم ينتمي الشعب لأرضه ويُضحي من أجلها ، ولا يُعقل أن تبقى الدولة مستقرة ما لم يلتف الشعب حول قيادته الحاكمة وبالمقابل من المستحيل أن تستقر الدولة أو تنمو أو تتطور مالم تهتم القيادة بالشعب والارض فالدول التي لا تنمو لا تكون آمنة والعكس صحيح .
 
و.   من هنا فإن على المخطط الاستراتيجي في الدولة أن يُركز على الموازنة بين استخدام القوة الناعمة والقوة الصلبة في إدارة الازمات الداخلية والخارجية للدولة، كما على كل مؤسسات الدولة أن تعمل على تعزيز وتماسك الجبهة الداخلية، بعد أن اصبحت طاقــة الانســان وعقلــه هدف التنظيمــات الارهابيــة المتطرفــة في ظل سعيها الدائم لنشر الفوضى والدمار في العالم. إن غياب تجانس الشعب وارتباطه بقيادته وزعزعـة الامن الاجتماعي ستؤدي إلى زوال الدولة وانهيارها .
 
ز.   إن بناء الدولة في ظل الاوضاع غير المستقرة التي يمر بها العالم يتطلب ادراك واضح أن هناك تغيرات جوهرية متسارعة اثرت على مجالات الصراع وادواته ، إضافة الى أن منظومة العلاقات الاقليمية والدولية اليوم اصبحت تُعاني من تصدعات وتحديات كبيرة وكثيرة .
 
ح.    لقد مر العالم بأحداث عملت الفارق في التاريخ وأثرت بشكل واضح في بناء الدول بمفهومه الشامل، فبعد عام 1991 وبعد انهيار جدار برلين تحول العالم من نظام ثنائي القطبية الى نظام أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة ولغاية عام 2008 حيث انتقل العالم الى نظام شبه تعددي تقوده اطراف خماسية هي “الولايات المتحدة الامريكية، روسيا، الصين ، اليابان، والاتحاد الاوروبي “  اما اليوم فتتحكم فيه 3 دول اقتصادياً وعسكرياً هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وهذه هي الترجمة الحقيقية للأوضاع غير المستقرة التي أثرت على أوروبا كلها ومعظم دول الشرق الاوسط فمن الصعب وفي ظل هذه المعطيات والتحولات ان نتحدث عن بناء دول بالمفهوم الحقيقي والسليم.
 
بعد هذا الاستعراض المختصر لمرتكزات بناء الدولة والتحديات التي تواجه استقرار ونمو الدول، فمن الممكن أن نأخذ إحدى الدول العربية التي ابتليت بما يسمى “الربيع العربي” لم يكتمل بناءها لأنها عانت ولا زالت تعاني من اوضاع غير مستقرة ونحن هنا نقصد ليبيا كدولة ذات سيادة تحولت إلى دولة أقرب الى الدولة الفاشلة والتي يمكن اعتبارها مثالاً لدولة تبنى تحت أوضاع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة تمنع اكتمال عملية البناء وذلك لـ 3 اسباب هي :
 
أ.   لا يوجد تماثل بين السلطة والدولة حيث أن هناك خلل بنيوي وهيكلي واضح فالرئيس القذافي السابق كانت له ادواته الخاصة بالحكم وله كتائبه العسكرية الخاصة، كما ان مؤسسات الدولة كانت مختزلة ولا تتبع المعايير العالمية لإدارة دولة بالمعنى الصحيح  وفي حالة صراع  دائم على السلطة.
 
ب.   الموروث التاريخي في ليبيا وتاريخ الانقلاب والانفراد في الحكم ودولة الرجل واحد ونظام الاستبداد والسلطوية واتساع الفجوة بين الحاكم والشعب وطبقية المناصب والامتيازات، وغياب العدالة في توزيع مكتسبات التنمية وغياب المصداقية والشفافية كلها تشكل اوضاعا غير مستقرة لا تساعد على بناء الدولة المدنية الحديثة.
 
جـ.    حتى بعد رحيل القذافي لم يكن هناك توافقاً وطنياً لإدارة الدولة مما اتاح المجال للتنظيمات الارهابية ان تتمدد في ليبيا وان يلوح بالأفق من ينادي بتقسيم ليبيا إلى دويلات وهذا بسبب صراع الادارات على حساب مصالح الشعب ولو كانت ليبيا دولة قائمة على ثوابت ومرتكزات وطنية وقواعد مؤسسية سليمة لما اصبحت اليوم دولة أقرب الى الفاشلة بسبب الاوضاع غير المستقرة في الداخل وصراع على السلطة، بالإضافة الى الاطماع الاقليمية والدولية الخارجية حيث تتقاطع مصالح الدول الكبرى والإقليمية في بعض الأحيان وتتضارب في معظمها . 
 
الخلاصة والاستنتاجات
لم يعد بناء الدول بيد الدول وحدها بل أصبح عملية معقدة يتشارك فيها العديد من الأطراف ذوي المصالح المتضاربة والتي لا تتقاطع كثيرا ً إلا في جزئيات بسيطة تفرضها السياسات والقوانين الدولية .
إن التحولات التي تمر بها منطقة الشرق الاوسط بما فيها من مهددات وتحديات كبيرة ومتنوعة تأثر بشكل مباشر على مفهوم بناء الدولة في اوضاع محلية واقليمية ودولية غيرة مستقرة على رأسها المشروع الجيوسياسي الايراني الذي يشكل أهم واخطر عناصر عدم الاستقرار في الاقليم حيث نجد ان ايران هي الدولة الوحيدة في العالم التي ينص دستورها على تصدير الثورة من خلال أدوات أهمها الطائفية، حيث تعطي ايران لنفسها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة استنادا الى مواد أصلية في الدستور وتُضفي على هذا التدخل شرعية سياسية وأخلاقية إدعاءاً، وهذا واضح من خلال الاستعانة بالأحزاب العراقية ذات التوجهات الطائفية الموالية لها لمليء الفراغ الجيوسياسي في العراق، وفي سوريا عبر دعم النظام وفي لبنان عبر دعم حزب الله وفي اليمن عبر دعم الحوثيين وتمكينهم بالسلاح للسيطرة على مؤسسات الدولة وحتى في بعض دول افريقيا تحاول ان تتدخل بالبعد الديني والتمويل واستخدام الاعلام والتضليل والخداع . 
 
إن المنطقة العربية لا زالت تعاني من عدم الاستقرار الداخلي وعناصر عدم الاستقرار الاقليمي والدولي ولهذا ستبقى دول الشرق الاوسط غير مستقرة وغير آمنة ما دامت الاوضاع بمجملها مرشحة لمزيد من التصعيد والعنف وهذه أهم معوقات بنــاء الدولة الحديثـــة.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره