2023-09-28
تهديدات حيوية: تصاعد أبعاد العسكرة المائية فى الشرق الأوسط
على مدار سنوات طويلة كانت ولازالت منطقة الشرق الأوسط مسرحاً للكثير من العمليات العسكرية، تم خلالها استخدام كل ما هو متاح من أدوات كسلاحاً في الصراعات القائمة، ومن بينها الأداة المائية، وهو ما أطلق عليه ماركوس كينغ اسم «عسكرة المياه» Weaponizing Water، إذ أصبحت فيما بعد إحدى الأدوات غير التقليدية والتى يتم توظيفها من جانب الأطراف المتصارعة لتعزيز النفوذ، وبسط الهيمنة، وضمان الشرعية. وهو ما فرض جدلاً وتبايناً شديداً ما بين أنماط الصراعات والنظريات المفسرة لماهيتها، وإنعكس ذلك الجدل على إختلاف المدارس الأكاديمية بحقل العلاقات الدولية حول تبنى القيم التقليدية أم قيم الحداثة فى تفسير التهديدات الحيوية القائمة والمُحتملة، والإتجاهات الحديثة لتناول منظومتى الأمن الإقليمى والدولى.
بقلم: د. إيمان زهران
وبالنظر إلى تنامى حدة التهديدات الحيوية بالشرق الأوسط عبر الآلية المائية - كما ونوعا - فثمة عدد من الإستراتيجيات التى يستند عليها نمط “عسكرة المياة – Weaponizing Water “ لتحقيق العديد من الأهداف سياسية كانت أو عسكرية جراء إستخدام السلاح المائى بالقضية محل التداول بين الأطراف المتصارعة بالمنطقة، وذلك بالنظر إلى:
1. إستراتيجية «العسكرة الاستراتيجية»: تُبنى تلك الفرضية على أن هناك نوعان من العسكرة الاستراتيجية، يتمثل النوع الأول في استخدام المياه للسيطرة على مناطق واسعة من الأراضي لتحقيق السيادة، والثاني يتمثل فى استخدامها كورقة مقايضة لتمويل الأنشطة العسكرية كشراء الأسلحة. كما تشمل العسكرة الاستراتيجية استهداف أو تدمير المراكز السكانية الكبيرة أو المنشآت الصناعية وغيرها من البنى التحتية بهدف فرض الهيمنة وتطويق ومحاصرة الأطراف الآخرى بالصراع.
2. إستراتيجية «العسكرة التكتيكية»: يتجلى هذا النوع في استخدام المياه كسلاح في ساحة المعركة، لتوفير الدعم المباشر والفوري للعمليات العسكرية، أو استخدامه ضد أهداف ذات أهمية عسكرية كبيرة، مثل تطويع السلاح المائى للحد من تقدم الجيوش النظامية.
3. إستراتيجية «العسكرة السيكولوجية»: ينطوي هذا النوع من العسكرة على بث الخوف في صفوف غير المحاربين من خلال حرمانهم من الوصول إلى إمدادات المياه أو تلويثها. ويلجأ الفاعلون إلى ما يُطلق عليه «الإرهاب المائي»، سواء على المستوى الاستراتيجي أو التكتيكي.
4. إستراتيجية «العسكرة التحفيزية»: ينطوي هذا النوع من العسكرة على استخدام المياه كسلاح لضمان شرعية السلطة الحاكمة، أو كمكافأة على الدعم المقدم من المواطنين.
5. إستراتيجية «العسكرة غير المقصودة»: عندما يسبب استخدام سلاح المياه أضراراً جانبية على المدنيين أو البيئة الأيكولوجية، يُسمى ذلك بالعسكرة غير المقصودة. ويعد نزوح السكان غير المتعمد – فى حالات الفيضانات او الجفاف - شكلاً متكرراً لهذه الأضرار الجانبية.
تهديدات متصاعدة:
تأسيسا على الإستراتيجيات الخمس لأنماط «العسكرة المائية» السابق إستعراضها، وبالنظر لمُجمل التفاعلات السياسية والأمنية بالشرق الأوسط، نجد أن هناك عدد من المشاهدات تُرسخ لإشكالية تصاعد مثل تلك «التهديدات الحيوية» عبر تطويع المياه كسلاح فى إدارة الصراعات القائمة بالمنطقة، مثل: التحكم في الموارد المائية والبنى التحتية لفرض الهيمنة أو إقرار الشرعية، وذلك بالنظر إلى ما يلى:
- توظيفات العسكرة المائية لفرض الهيمنة: تتباين المشاهدات فى تلك النقطة بالنظر إلى خريطة الصراعات القائمة بالشرق الأوسط وتطويع المحدد المائى كآلية عسكرية تُستخدم فى الإستراتيجيات الدفاعية والهجومية لتعزيز فرضية الهيمنة، فعلى سبيل المثال: كانت استراتيجية العسكرة المائية الرئيسية لـ«تنظيم داعش» هي الاستيلاء على السدود الكهرومائية الرئيسية على نهري دجلة والفرات، فضلًا عن الجمع بين العمليات العسكرية وإدارة الموارد والمؤسسات في سوريا والعراق لضمان إحكام السيطرة على خطوط الإمداد بين البلدين. وعلى جانب آخر، عملت شبكات المياه أيضًا كأداة دفاعية، مما سمح لـ «تنظيم داعش» باستخدام التهديد بإلحاق الضرر بشبكات المياه الخاضعة لسيطرته لإبطاء تقدم التحركات الميدانية للاطراف الأخرى بالصراع. وبالسياق ذاته، عمدت تركيا لتوظيف «المياه» كسلاح ضمن تحركاتها العسكرية فى سوريا، ففى عام 2020 قطعت السلطات التركية المياه عن الآلاف الأشخاص في محافظة الحسكة وذلك ضمن هجومها ضد الأكراد. وفي مارس 2020، قطعت المياه عن ثلاثة مخيمات للاجئين إبان أزمة فيروس كورونا، مما أثار تداعيات سلبية جديدة على الآثار المضاعفة لتسليح المياه أثناء الأوبئة.
الجدير بالذكر، أن كافة الدول المأزومة بالشرق الأوسط تؤسس لتطبيقات «العسكرة المائية» فى إدارة الصراعات السياسية ومحاولات الأطراف المتصارعة لإعادة ترسيم المعادلات الميدانية وفقا لنظرية «المكاسب على الأرض».
فعلى سبيل المثال: إستغل أطراف الأزمة اليمنية خاصة ميليشيا الحوثيين– منذ إندلاعها فى 2015 - أزمة الشح المائي «كسلاح تكتيكي» في الحرب الممتدة لإضعاف خصومهم، متسببين في ذلك كارثة إنسانية خانقة، إذ تسببت الحرب في توقف المشروعات الحكومية الاستراتيجية وعلى رأسها تحلية مياه البحر، فضلا عن خروج الآبار المرتبطة بشبكة الكهرباء العامة عن الخدمة، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة استخراج المياه بالمضخات التى تعمل بالديزل لارتفاع أسعار الوقود بشكل كبير.
كما أدى التدمير الكامل للبنى التحتية للصرف الصحي والمياه العذبة إلى نفاد المياه في البلاد، كذلك على مستوى الأزمة السورية وتطويع المياه كـ «سلاح إستراتيجي» لفرض الهيمنة فثمة تحركات من جانب مقاتلو المعارضة تمكنت عبرها من الإستيلاء على سد تشرين لتوليد الطاقة الكهرومائية الواقع على نهر الفرات في منطقة منبج ضمن محافظة حلب في نوفمبر 2012، واستهدفت الحكومة السورية منشأة مياه عين الفيحة بوادي بردي في ديسمبر 2016 فضلا عن قطع المياه عن دمشق مما ترتب عليه نزوح داخلي، وكذلك أغلق تنظيم داعش القناة الرئيسية للمياه من سد التقبة - الواقع في محافظة الرقة جنوب منبج - إلى حلب. دون إغفال إستغلال تنظيم داعش للمحدد المائى كآلية تمويل بعدما حول بنك الائتمان إلى مصلحة الضرائب تجمع المدفوعات من الشركات والأفراد مقابل الكهرباء والمياه والأمن. والأمر ذاته عند النظر للتحركات الإسرائيلية عبر تفعيل آلية «العسكرة المائية» للهيمنة على مصادر المياه فى كل من الأراضى الفلسطينية المُحتلة، سوريا، لبنان، والأردن وذلك عبر مشروعاتها المتباينة التى روُج لها مُهندسوا المياه فيما قبل نشأة الدولة الإسرائيلية وحتى يومنا هذا.
- توظيفات العسكرة المائية لإقرار الشرعية: إذ دوما ما تسعى الأنظمة الحكومية لتوظيف ورقة الموارد المائية والبنى التحتية كأسلحة للسيطرة وإقرار الشرعية، ففي تفاعلات الأنظمة السياسية مع شعوبهم يصورون المياه كرمز للهوية وآلية لتوحيد السلطة، كما تستخدم الجهات الفاعلة غير الحكومية استراتيجيات مماثلة لإضفاء الشرعية على سيطرتها. فعلى سبيل المثال: بُنيت استراتيجية حزب البعث فى سوريا عام 1970 على دمج الخطاب المرتبط بمشاريع الأمن المائي وشرعية السلطة في البلاد، وتم تضخيمه لاحقًا من خلال الدعاية إبان فترة حكم «حافظ الأسد»، وهو ما إنعكس على قدرة الدولة على التوسع فى إستراتيجية «تسليح الموارد الزراعية» كأداة للهيمنة السياسية وإعادة الهندسة الديموغرافية.
بالسياق ذاته.. تأتى العديد من المشروعات المائية بالشرق الأوسط كأحد الآليات الداعمة لنمط «العسكرة المائية» فمن ناحية إكساب النظام الحاكم الشرعية بالداخل الوطنى، ومن الناحية الأخرى تطويع الورقة المائية فى إدارة التفاعلات السياسية القائمة بالمنطقة مستغلين فى ذلك هشاشة التطبيقات القانونية حول إدارة وتقاسم الموارد المائية الدولية المشتركة. فعلى سبيل المثال: تُشكل المشاريع المائية التركية توظيفات حيوية لأنماط «العسكرة المائية»، وذلك بالنظر إلى الأبعاد السياسية والأمنية لكل من «مشروع تطوير جنوب شرق الأناضول (الجاب – GAP)” و “مشروع أنابيب السلام”. الأمر كذلك بالنظر إلى حالة “سد النهضة الإثيوبى” والذى يُمثل أحد آليات “العسكرة المائية” والتى تعكس “إستراتيجيات تحفيزية” ذات آثار متباينة، فمن ناحية تعمل على تطويق ومحاصرة الأمن المائى لدولتى المصب (مصر والسودان)، ومن ناحية آخرى تعمل على إكساب النظام القائم “الشرعية السياسية” وذلك بالنظر إلى ما تضمنة الخطاب الإثيوبي من رسائل دعائية للداخل يسعى من خلالها لترسيخ شرعية النظام القائم لمعادلة تنامى الإرتدادات السلبية لفوضى العرقيات.
فى النهاية.. يُجدر الإشارة إلى أن تنظيم وتقسيم المياه يحكمة ما يزيد على 3600 معاهدة واتفاقية - من بينهم 149 إتفاقية تم توقيعها فى القرن العشرين - الأمر الذى يبرز أهمية إعادة النظر فى التعامل مع قضايا المياه خاصة عند توظيف تلك القضايا كسلاح عسكرى بالتفاعلات السياسية والأمنية فى الشرق الأوسط. مُستغلين فى ذلك عاملين، الأول: هشاشة التطبيقات القانونية حول إدارة وتقاسم الموارد المائية الدولية المشتركة، والثانى: ما يتعلق بضعف وهشاشة الأنظمة السياسية العربية خاصة للدول المأزومة بالمنطقة مما حال دون الرد بفاعلية ضد السياسات المائية الآحادية التى تنتهجها العديد من الدول مثل إسرائيل وتركيا وإيران وغيرها من الفواعل من دون الدول مثل جماعة الحوثى وتنظيم داعش على نحو بات يُهدد مستقبل «الأمن المائى» بمنطقة الشرق الأوسط.
لا يوجد تعليقات