مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2013-05-01

حين تحتلك مدينة!

كتبت الجزائرية أحلام مستغانمي مرة عن المدن فقالت "هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً، تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك، هنالك مدن لم تخلق لتزورها بمفردك، لتتجول وتنام وتقوم فيها، وتتناول فطور الصباح وحيداً، هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، وموجعة كحسرة...." كذلك المدن كما كتبت أحلام وكما كتب غيرها وسيكتب آخرون، أحد ألغاز التجربة الإنسانية، وكأن الله خلق البشر ليخلقوا هم المدن، ثم ليهيموا بها عشقاً أو ليكرهوها من النظرة الأولى، فالمدن كالنساء إما أن تحتلك من النظرة الأولى وإما أن تتجنبها كوباء، لا مجال لأن تقنع نفسك بالقوة كي تحب مدينة، فالمدن ليست كتاب فلسفة ولا نظرية في الجمال، إنها حالة عاطفية تتراوح بين السذاجة والكيمياء، وتقع في المسافة بين الروح وصيحات بائع متجول يبيع انتيكات مستعملة!!
 
حين زرت باريس في صيف 2001 لم أحبها أبداً، وكان الحق على الطقس، ففي ذلك الوقت كانت الحرارة عالية والشمس تأكل الرأس والروح، ولم أجهد نفسي في عشقها، أجلت تلك المهمة لسفر آخر لمدينة النور والثقافة واللوفر والسوربون ونهر السين وموليير وفيكتور هوجو، ولكنني حتى اليوم وبعد مضي أكثر من عشر سنوات لم أحاول أن أزورها رغم رغبتي في ذلك، باريس هذه مدينة لها عشاق بعدد نجوم السماء، وتراب الأرض، ولها حالمون يتمنون إلقاء نظرة عليها ولو من بعيد، وسبحان الله الذي له في خلقه شؤون، ولخلقه مع الحب أحوال وتجليات وأمزجة!
 
للمدن مزاج، ولكل مدينة مزاجها الخاص، وما بين المرء والحب مسافة كيمياء، فإما أن تبيح المدينة لك شيفرة معادلتها فتعرفها منذ النظرة الأولى، والخطوة الأولى، وأحياناً رشفة الماء الأولى، ولقمة الطعام الأولى فيها، فتتبسط معك وتفتح كل أبوابها وتسلمك المفاتيح، وهنا يطيب الحال ويحلو المزاج، وتدخل في علاقة الحب التي لن تنتهي ولن تبرأ منه أبداً، وإما العكس تماماً، أنا أعترف بأنني لم أبرأ من عشق بيروت أبداً رغم أن الأحوال باعدت بيننا في الفترة الأخيرة!
 
حين ذهبت إلى اسطنبول مؤخراً خشيت أن لا أحبها، ولا أدري سبباً لخشيتي، ربما لأنني لم أزرها قط، وربما لأنني أتوجس من مدن الشرق لأسباب لها علاقة بتجارب سيئة في بعضها، لكنني حين دخلتها سميت باسم الله وتعوذت من شر مزاج المدن السيئ ودعوت أن تستقبلني اسطنبول بلباقة إن لم تستطع أن تستقبلني بدفء ومودة، فكان ما أردت لأنني أؤمن بأن الله يعطينا بقدر نوايانا، حينما أفقت صباحاً دخلت اسطنبول من أجمل أبوابها ومن أعظم زواياها التي تحبها، غازلت شغفها بالعظمة وعزفت على وترها الرنان، فكانت زيارة توبكابي سراي أو قصر السلطان سليمان العظيم مدخلاً موفقاً أنتج علاقة صداقة ناعمة مع المدينة التي تظل مكتظة طيلة الوقت!
 
بسفورها الجميل لا حل له سوى التعلق به كالجسر المعلق فوقه بكبرياء قل نظيره، وهنا تكتشف الحقيقة الأجمل: إن الذي يمنح اسطنبول كل هذا الألق والعظمة هو كونها المدينة الوحيدة التي تمد رجليها في آسيا وتغفو واضعة رأسها على تلال خضراء في أوروبا، لقد كان العثمانيون عظماء تجري في عروقهم دماء الغزاة الفاتحين بجدارة، لذا جعلوا من اسطنبول شرفة دولتهم التي يطلون من خلالها على كل أوروبا ليحتلوها فيما بعد!
 
أحببت هذه المدينة ففيها من دواعي الحب الكثير، لكن المعرفة بالتاريخ كانت مدخلاً صحيحاً لهذا الحب، ليست المعرفة وحدها لكنه الاعتراف أولاً، فالأتراك يمتلكون تراثاً وتاريخاً مهولاً من القصور والمساجد والمتاحف والرموز التي لا تنتهي، ويمتلكون مطبخاً لا يضاهى بأطعمته ونكهاته، كما تمتلك كل مدينة لديهم مزاجاً خاصاً وطابعاً مميزاً، أما البحر فيضفي على البلاد سحراً عجيباً، أنك لا تفتقد البحر والمآذن هناك، فكلما حلق سرب طيور ثق بأنك قريب من بحر أو سوق أو مسجد!.


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره