مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2017-08-06

مجلس الأمن وتسييس العدالة الجنائية الدولية

أمام تنامي الحروب والمنازعات التي خلّفت كوارث إنسانية فظيعة، شهدت العدالة الجنائية الدولية تطوّرا ملحوظا، ففي عام 1945 تشكّلت محكمة "نورمبرغ" بموجب اتفاقية موقعة في لندن بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي، بثّت في الجرائم المرتكبة ضد السلم والإنسانية من قبل الألمان خلال الحرب العالمية الثانية؛ فيما أحدثت في نفس السياق المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى في طوكيو سنة 1946؛ اختصّت بمتابعة مجرمي الحرب في اليابان لنفس الأسباب.
 
وفي بداية التسعينيات من القرن المنصرم وفي إطار ممارسة مهامه المتصلة بحفظ السلم والأمن الدوليين والتي تتيحها المادة التاسعة والثلاثون من الميثاق الأممي، قام مجلس الأمن بإحداث المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا السابقة (عام 1993) والمحكمة الجنائية لرواندا (عام 1994)..
 
ورغم أهمية هذه المبادرات مجتمعة؛ فإنها ظلّت محدودة الأثر؛ ولم توفّق في إرساء عدالة جنائية دولية دائمة وقادرة على ترسيخ مبدأ الإفلات من العقاب، ذلك أن المحاكمات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية كرّست "عدالة المنتصر" لكونها لم تطرح مسؤوليات الدول الكبرى في هذا الصدد (قصف مدينتي "ناكازاكي" و"هيروشيما" اليابانيتين بالسلاح النووي الأمريكي على سبيل المثال).. فيما اتّسمت العدالة الناتجة عن إحداث المحكمتين بعد نهاية الحرب الباردة بالانتقائية؛ بعدما ظلت حالات عديدة أخرى أكثر خطورة بمنأى عن أي محاسبة؛ كما هو الأمر بالنسبة لجرائم حدثت في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق..
 
ثمّة الكثير من العوامل والأسباب التي حالت دون إرساء عدالة جنائية ناجعة ومستدامة، وقد شكّل التّذرع بقدسية سيادة الدول ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية؛ أحد هذه العوامل.. غير أن تزايد حدّة الحروب والنزاعات الداخلية وما خلّفته من جرائم إنسانية خطرة في مناطق مختلفة من العالم (رواندا، والصومال، ويوغوسلافيا السابقة..).. عجّلت بتشكّل رغبة دولية قوية لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية الدائمة؛ التي جاءت ثمرة جهود بذلتها دول ومنظمات غير حكومية عديدة..
 
تأسّست المحكمة بموجب قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995؛ وكلّفت بملاحقة ومحاكمة المتورطين في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري؛ والعدوان، بما يدعم ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
وقد مثّل ذلك حدثا دوليا كبيرا؛ خصوصا وأن هذه المحكمة التي تجسد قضاء دوليا يرتكز إلى إرادة الدول؛ وعلى إثارة المسؤولية الشخصية للجناة؛ جاءت مستقلة عن الأمم المتحدة من حيث التمويل والموظفين؛ وباختصاصات مكمّلة للقضاء الداخلي وليست بديلا عنه..
 
بلغ عدد الدول المصادقة على نظام روما 124 دولة حتى الآن؛ من مجموع 192 دولة عضو بالأمم المتحدة..؛ وهي موزعة كما يلي: 34 دولة إفريقية و19 دولة من آسيا والباسيفيك؛ و18 دولة من أوربا الغربية و28 دولة من أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي 25 دولة من أوربا الشرقية ومناطق أخرى من العالم.. بينها أربع دول عضو في جامعة الدول العربية هي الأردن؛ وجيبوتي؛ وجزر القمر؛ وتونس.. 
 
منح نظام المحكمة لمجلس الأمن بعض الصلاحيات؛ على مستوى تحريك مسطرة الإحالة على المحكمة (المادة 13) بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في مواجهة الجرائم المندرجة ضمن اختصاص المحكمة، سواء ارتكبت داخل دول طرف في نظام المحكمة أم لا..
 
وتشير الممارسة إلى أن المجلس استغلّ هذه الإمكانية بصورة منحرفة؛ فمن بين عشرة تحقيقات تباشرها المحكمة حاليا؛ هناك تسعة تنصبّ على قضايا تتّصل بالقارة الإفريقية (أوغندا؛ وجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ وجمهورية أفريقيا الوسطى؛ والسودان ودارفور؛ وساحل العاج؛ وكينيا؛ ومالي؛ وليبيا) كان المجلس من وراء إثارة غالبيتها، وهو ما دفع عددا من الدول الإفريقية إلى التهديد بالانسحاب من نظام المحكمة..
 
كما أتاح له النظام أيضا إمكانية إرجاء تدابير التحقيق أو المقاضاة التي تباشرها المحكمة (المادة 16) بصدد جرائم تندرج ضمن ولايتها.. وهو إجراء يمكن أن يشّل عمل المحكمة ويحول دون تحركها في الوقت المناسب؛ كما يمكن أن يسهم في ضياع الوثائق والأدلة الإثباتية..
 
إن تأسيس عدالة جنائية دولية قادرة على إرساء مبدأ عدم الإفلات من العقاب؛ وفي مستوى التحديات والمخاطر المطروحة..؛ يبدأ من مصادقة الدول الكبرى على نظام المحكمة؛ والسعي لتجاوز كل مظاهر تسييس عمل هذه الهيئة بتعزيز استقلاليتها عن مجلس الأمن..
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره