مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2012-08-01

وداعاً.. لكل شيء

ما أصعب تلك الشيخوخة التي تجر معها العمر الهارب، وتمكث طويلاً عند عتبة باب دارك، فارضة عليك ذاكرتها الجديدة الهشة، بعدما اغتالت ذاكرة الحياة، وملح العمر، وألوانه، ليس هناك غير مفردات اليوم التي ترددها وأنت تمضغ "لبان الملائكة" في خريف عمرك، في غياب الذاكرة.. وداعاً لكل شيء، هكذا أرثي الكاتب الساحر "غارثيا ماركيز" فيما تبقى له من أيام لا تحس، لأن الشيخوخة هجمت بكل النسيان، فجأة غاب حس زوجته "مرسيدس" وغابت رائحتها في البيت، وظلها الذي يهمس للجدران ودفئها، فجأة غاب أبطاله من الروايات والحكايات، وتفرقوا في الظلمات والبحور العميقة، وغدا لا يعرف أحداً منهم، ضاعوا في الحروف، وسكنوا ذاكرة الناس، ما عدا "ماركيز"، لعلها من أقسى الأمور على الكاتب الذي أبدع الحكايات، وقص القصص، وخلق أبطالاً من الحروف والكلمات أن تضيع منه معاني الكلمات، ومعنى الصور التي كانت تنهال وتنثال من رأس ظل جميلاً ومبدعاً، ما أتعب الخرف الذي يطيل خريف العمر، ولا يصبغ الأشياء بألوانها، لا شيء غير الرماد، ودخان ذاكرة معطوبة، "ماركيز" لا تستحق هذه النهاية الصامتة، وحدك والفراغ والعدم، أنت الذي كنت تعطي لتفاصيل حياة الناس رنيناً وحضوراً. 
 
وكما غاب عن "ماركيز" أبطال الحكايات، غاب عن ذاكرته الأصدقاء، وصوت الجارة التي ترطّب صباحاته بالعافية، مثلما غابت أحاسيس المنزل والمسكن والزوايا التي كان يكتب فيها، لا معنى للمدفئة التي تسكن الحائط المرخم الآن، ولا ثمة رائحة لحطب الموقد، ولا شواء الكستناء، ولا ظلال من غبش لشراب العنب الذي يسرّبه له خوري الكنيسة القديمة، ذهب العمال والكادحون بصبحهم، كما ذهبت الصبايا في أثوابهن الفضفاضة مع الريح والمطر خلف مظلاتهن الهاربة في الطرقات اللامعة، غابت كل المدن والأسفار والمشاغبات وحبر الورق وحريق الصحافة في عمى الشيخوخة القاتل، فجأة غابت الألوان من أمام عين "ماركيز" حينما فقد الذاكرة، وفقد ما كان يمده بطعم الحياة، اللعنة حينما تسحب الحياة عصبها، وتتركك كجثة من خشب، تناظر للقلم المذهب الذي كان يحمل توقعيك، فلا تميزه، تجول حول مكتبتك التي كنت تحفظ رفوفها كأعمى بصير، فلا يقلقك شيء نحوها، تلك الأوراق الكثيرة والمبعثرة هنا.. وهناك، تلك الحقيبة الجلدية رفيقة اليد والكتف والأسفار الطويلة، النظارة المستقرة على صفحة جريدة قديمة مقلوبة، كل شيء في مكانه إلا "ماركيز" خانت به الذاكرة، ولم يعد يحيد شيئاً، حتى تلك الصور التي تبيت في براويزها، ويظهر في جلها باسماً ضاحكاً أو عقب سيجار كوهيبي في يديه، لا يعرفها، ولا يدري عن الساكنين فيها، ولا يتذكر صديقه الكهل "كاسترو"، عجوز كوبا الذي يقاوم، والذي كان يستقبله ويناقشه ويعطيه من السيجار ما يكفيه مئونة عام بأكمله، اللعنة على "البروستات" وذلك العلاج الكيماوي الذي طرد ذلك الكابوس المميت، لكنه أعطب الذاكرة، "ماركيز" لا تستحق النسيان، ولا يليق بك النسيان، أنت من أيقظت ذاكرة الناس، وجعلتها قابلة للأسئلة، وقابلة للدهشة والمتعة والتذكر بحب، فهل غياب الذاكرة بأيامها المتبقية، هي كـ"مائة عام من العزلة"؟ وهل يجد الجنرال من يراسله أو يتذكره في نهاية خريف وخرف عمره؟ هل الحياة بلا ذاكرة تستند عليها، وتلهمك الأشياء الجميلة والملونة فيها، أشبه بـ"الحب في زمن الكوليرا"؟. 
 
تلك أسئلة بعيداً عن ذاكرة "ماركيز" التي جعلته يجلس بالقرب من كرسيه القديم في الحديقة العامة يرقب الناس بعين زائغة، مثل طفل ملّ من اللعب والمشاغبة، واستراح من لهاثه وتنهداته، ليسبح وحده في سبحانيته، وسمائه الزرقاء البعيدة، يتبع تعلقات الروح وطيرانها البعيد بأجنحة مثقلة بأسئلة كونية كبرى، أقترب منها ماركيز مرة.. ثم فجأة نسى!.
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره