مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2012-09-01

جدلية الإنسان والمكان والحنين

ثمة حنين فياض عند الإنسان تجاه أشيائه القديمة، غير أنه لا يدرك أهميتها وقيمتها إلا حين تنقضي السنون، وتتبدل الأشياء من حوله، ويتغير الناس وتختلف طبائعهم، حينها يستوحش من جديده، ويتحفز من البشر الطارئين، فلا يكون ملاذ غير ظل سدرة كانت تجاور بيت الطين أو هواء نخل كانت تحوط عريش الصيف في واحات العين، ولا تكون كل الطرق أنيسة مثل تلك الطرق التي كان يعبرها ربما حافياً، وربما مسرعاً من رمضاء رملها، وليس ثمة أصدقاء حقيقيين بمثل أصدقاء طفولة وملعب ومدرسة ابتدائية، ولا جيران مثل جيران الأمس، أولئك الذين يؤثرون اللقمة فتسبق إلى فمك دونهم، أولئك الحاضرون إن غبت أو غيبتك الأسفار والأعمال، ليس ثمة جارة بمثل الجارة العجوز التي تخاف عليك كإبنها وأكثر، ولا جار يمكنك أن تتحمل نهره وحمرة عينه كأبيك البديل وأكثر.
 
فجأة يأتي شيء ربما بسيط ويلزمك التوقف والتأمل والتفكر، ويغيب عالم اليوم الجديد والسريع والمكتظ بأناس لا تعرف جلهم، وتهرب إلى زاوية تشعر بدفئها وحميميتها، تخبؤك عن شوارع اليوم وأبنية الأسمنت الصامت وتلك الرمادية التي تطبع بعض أخلاق الناس لتعبر بك نحو عالم طفولي بريء وطفولي، نحو أناس لا تنتظر منك إلا البسمة والضحكة، ولايرجون إلا "المرحبانية" التي تسبقك نحوهم، هذا هو الشعور القاسي الذي يحضر إذا ما حضر رمضان، وبدأت لياليه المعطرة بالبخور واللبان والأدعية، وهو الشعور ذاته حينما ينقضي ويهل هلال العيد، فلا تفرح بجديد ثيابه، ولا بزهو أوقاته.
 
لما حضور رمضان الماضي، والعيد الماضي، مازالا حديث الذاكرة، في حين مرت رمضانات وأعياد في الوقت الحاضر لا تعلق في الذهن بأي حضور يستوجب التوقف، ربما أن الزمن تغير، والناس تبدلوا، وإيقاع الحياة ما عاد بتلك البساطة والرحابة، وربما لأن المادة اليوم جلبت للناس كل ضجيجها، واختلفت بذلك مقاييس التواصل، ومعايير التعارف، تماماً مثل بيوت الأمس تظل حاضرة بكل جلال الحضور، ماكثة في الرأس بكل تفاصيلها الصغيرة، ماثلة كشواهد لا تغيب عن الذاكرة، في حين بيوت اليوم، والتي نغير أثاثها بين كل حين وحين، وربما نغيرها من مكان إلى مكان، لا تفرض أي حضور يليق بمقام المنزل الأول.
 
أحياناً أرجع ذلك لذاكرة الطفولة الطرية، حيث لم تتلوث بعد، طاهرة كصلصال من ماء وطين، وأحياناً أقول هي الدهشة الأولى في معرفة الأشياء الأولى، تلك الدهشة التي تظل تغادر مخيلة الناس كلما كبروا، وكلما خبروا الحياة، لكن مرات أرجعها لزمن البساطة الذي شكلنا حتى اذا ما كبرنا ابتعدنا عنه نحو حياتنا الجديدة المعقدة، لذا تستدعينا أشياء بسيطة في ظل دوامات الحياة وفي مناسبات مهمة لتقول لنا: توقفوا قليلاً! فربما سحبتكم الحياة ولم تعطوا للنفس شيئاً تفرح به، وشيئا تحن له، وشيئاً ربما يعود لها بعضاً من سكينتها وطمأنينتها، فيكون ذاك الهروب إلى الماضي كاستراحة للنفس الجامحة كعربات النار.
 
فعل المقارنة اللازم حينما تتذكر أياماً جميلة، وهادئة، وتعطي للروح بعضاً من سعادتها، في ظل طغيان حاضر مثقل بأعبائه وتعب أيامه، وربما مستقبل يشعرنا برهبة ظلمة لا نعرف كنهها أو طريق غير قادرين على تلمس وقع خطاها الأولى، فيكون الإنحياز للماضي لأننا تخطيناه، وخضنا أيامه بحلوها ومُرها، فلم نعد نتوجس منه شراً بقدر ما نسعد إذا ما اجتررنا ذكرياته، وطفنا نتذكر خيالاته.
 
جدلية الإنسان والمكان والحنين مدهشة، وأستوقفت الفلاسفة، مثلما أستوقفهم الزمن بكل خصوصياته، ونسبية الأمور فيه، فما يمر بك اليوم وقد لا يعني لك شيئاً، كفيل الزمن أن يعطيه أهمية وحضوراً ومعنى، بحيث يصبح مغلفاً بحنين وشوق، ومختبئاً في ثنايا الذاكرة أو بين ضلوع القفص الصدري، وأقل الأمور بساطة قادرة أن تسحبك نحوه أو تحضره لك، فلا تقوى إلا على الإستسلام لتلك الغواية الجميلة! .
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره