مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2012-03-01

طفولة تتنازعها مدينتان

قد لا يدرك الكثير من الجيل الجديد اليوم معنى أن تترك مدينتك التي ولدت فيها، وتعرف أماكنها كراحة كف يدك، لتسافر لمدينة جديدة تحاول أن تخلق خارطتها في الرأس من أجل العلم لعدم توفره في مدينتك، أو من أجل تعليم أكبر لم يكن متوافراً ذاك الحين في مكان قريب منها، وقد لا يدرك معنى البعد بين العين وأبوظبي بقياس زمن اليوم، وسهولة الوصول والمواصلات الآن بين أبوظبي والعين، لكن الكثير من جيل الستينات وقبلها، عاش طفولة ممزقة، تتنازعها أكثر من مدينة، فبعضنا درس الإبتدائية في مدينة، والإعدادية في مدينة أخرى، والثانوية في أخرى، والجامعة في بلد بعيد، وبحر بعيد، ومدينة خارجة من الحكايات، وأحلام قصص المساء، كانت غربة الدراسة في الإمارات أكثر من غربة العمل، بالنسبة لي والكثير من أصدقاء الدراسة الأولى، تقاسمتنا مدينة العين في الصفوف الأولى حيث الطفولة، وتعلم الحبو، وحروف الهجاء، وحيث ملاعب الصبا، وبيوت تعرفك، وكأنك أبنها، ومدينة أبوظبي حيث التفتيش فيها عن أماكن ستحبها، وعن أصدقاء ستعرفهم، وعن حياة تريد أن تعوضك حياة الفقد التي تركتها هناك في العين.
 
في البداية غدت أبوظبي أشبه بمدرسة داخلية، لا أرى الأشياء إلا من خلال ما تسمح به أسوار تلك المدرسة الداخلية، أو من خلال عين أبي الذي كان يصحبني معه لزيارة بيوتاتها وأماكنها والتعرف على بعض وجوهها أو من خلال رحلات مدرسية، وساعات معدودة لا تستطيع أن تقسمها بين اللعب، والتعرف على أبجديات المكان في مدينة في بداية تشكلها، لقد ضمت مدرستنا الداخلية، مدرسة الثقافة للأولاد في معسكر آل نهيان بأبوظبي طلبة من عُمان والإمارات أتوا من مدن مختلفة: العين وبدع زايد ومحضة وحفيت وشناص ومسقط والشارقة وعجمان ورأس الخيمة، كان هؤلاء الصغار تتقاسمهم مدينتان، مدينة يحنّون لها طوال الأسبوع، يستقرون فيها يومين لتعيد توازنهم، وترتب دواخلهم، ومدينة كنا نكبر فيها ومعها، وتعلمنا بقدر أعمارنا، لكن هذه المدينة وبعد انتهاء المراحل الدراسية، ستصبح هي المدينة التي نعرفها، ونطمئن بالسكن فيها، ونحمل لها الحنين حينما غربتنا الأيام.
 
اليوم.. تُفرح قلبي ما أن أصل إليها براً أو بحراً أو جواً، ناسياً أول يوم من البكاء قبل 42 عاماً حينما أجبرني أبي على الذهاب إليها، والعيش معه فيها، والدراسة في مدارسها، ربما أراد أن يلبس بكره ثياب الرجولة مبكراً، لقد ظل ذاك اليوم، وربما كان يوم جمعة في أواخر شهر ديسمبر من عام 1969 عالقاً في الرأس، وكان الطريق إليها صعباً ووعراً وطويلاً من البكاء والنشيج والشعور باليتم، لأن مفارقة الأم صغيراً أشبه باليتم أو أشبه بالفطم، كنت حينها أحجل في الصف الثالث إبتدائي، ولم أكمل منتصف العام فيه، كان قرار الانتقال إلى أبوظبي، ونزع الطفل من العين قراراً أشبه بالقرار العسكري الذي تتصف به قرارات أبي دائماً، لم ينفع معه توسلات الأم، ولا رجاء تلك الجارات الطيبات، ولا تلك النظرة الماكرة مني، والتي تكون العين فيها كسيرة، مع تهدل في الشفة يوحي بالضعف، وترقرق دموع صعبة النزول، كانت نظرة بطريقة العين الحمراء من أبي، وتقطيب ما بين الحاجبين كفيل بأن أنكمش، سرعان ما يتبعه بنهرة حارة فأقفز هرباً خوفاً من أن يتبعه ضرباً بالعقال أو بتلك العصا الرفيعة التي لا تنحني إلا مع تلامسها بالجسد الصغير الطري.. أذعنت وأنا أحمل ثقل الصبر، وودعت الأم متمنياً أن لا أفارق دفء صدرها ورائحتها التي تشبه روائح نخل العين، وودعتني هي وكأنني سأغيب عنها إلى الأبد، كانت تلك الرحلة المسائية طويلة، مليئة بحرقة البكاء وامتدت لساعات في ذلك "الجيب بو حايب" وانتهت صباحاً بوضع لوحة على صدري تحمل الرقم 34387 وصورة بالأبيض والأسود في بطاقة تحمل تاريخ تجنيدي في 26 ديسمبر 1969 وموقعة باسم القائد الإنجليزي .
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره