مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2025-07-01

حروب الخنادق بين صعوبات الصحراء والتهديدات الحديثة

دروس من حملة شمال إفريقيا في الحرب العالمية الثانية

يعدُّ حفرُ الخنادق عنصراً أساسياً في الحروب لتوفير الحماية للجنود والمعدات من الهجمات المباشرة ولغايات أخرى معروفة.  كما يعتبر حفر الخنادق الدفاعية من أهم الأساليب المستخدمة في مواجهة الهجمات، لكنها تواجه صعوبات عديدة في الصحراء بسبب التضاريس القاسية والمناخ الجاف، والتهديدات الحديثة من الطائرات المُسيّرة وأنظمة الاستطلاع.

تاريخياً، استُخدِمت الخنادقُ على نطاق محدود في الحروب التي سبقت الحرب العالمية الأولى التي شهدت استخدام أسلوب حفر الخنادق على نطاق واسع، حيث كانت الجيوش الأوروبية تلجأ إلى حفر الخنادق على طول الجبهات لصد القصف المدفعي وتجنب هجمات العدو، وشكلت الخنادق خطاً دفاعياً معقداً يحمي الجنود من القصف والرصاص، بينما تمثل الصحراء تحدياً كبيراً للدفاعات التقليدية، حيث تحتاج القوات إلى أساليب مبتكرة لحماية مواقعها.
وفي هذه الدراسة، نتناول تحليل دور الخنادق الدفاعية في البيئات الصحراوية، مع التركيز على الدروس المستفادة من حملة شمال إفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، وعرض أهم التحديات التي واجهتها القوات في إنشاء الخنادق في التضاريس الصحراوية القاسية، ثم محاولة استشراف مستقبل أسلوب حفر الخنادق في العمليات المستقبلية وتقديم بعض التوصيات.

خلفية تاريخية
لجأ القادة العسكريون منذ فترة الحروب النابليونية، إلى حفر الخنادق لتعزيز الدفاعات أثناء حصار المدن والقلاع في عدة معارك، ثم تطور أسلوب حفر الخنادق وإنشاء المواقع الدفاع بعد ذلك في التكتيكات التي أُتَّبِعَت وأصبحت عنصراً أساسياً في الحرب الأهلية الأمريكية وتطورت بشكل كبير، حيث اعتمدت القوات على الخنادق لتعزيز مواقعها وتقليل الخسائر البشرية في مواجهة هجمات العدو. من الأمثلة ما حصل خلال الحرب الأهلية الأمريكية في حصار بيترسبورغ (1864-1865)، عندما أنشأت قوات الاتحاد شبكة معقدة وعميقة من الخنادق خلال حصار استمر لأكثر من تسعة أشهر، ما ساعد على تثبيت خطوطها الدفاعية وتقويض جهود الكونفدراليين في شن هجمات مضادة.

وتُعد غزوة الخندق (627 ميلادية) واحدة من أشهر الأمثلة التاريخية المبكرة على استخدام الخنادق.
 أما خلال الحربين العالميتين، فقد لعبت الخنادق بمختلف أنواعها دورًا محوريًا في التكتيكات الدفاعية والهجومية، حيث تبلورت كوسيلة أساسية لتحصين القوات وحمايتها من نيران العدو.

وفي الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فقد مثّلت الخنادق عماد الجبهات القتالية، خاصة على الجبهة الغربية، حيث امتدت شبكات معقدة من الخنادق المتصلة بعمق وتفرعاتها. تم تصميم الخنادق لتوفير حماية ضد القصف المدفعي، واحتوت على خنادق أمامية للدفاع المباشر، وخنادق وحفر لدعم تخزين الإمدادات، وخنادق اتصال للتنقل الآمن (عبارة ممرات محصنة تربط بين الخطوط الأمامية والخلفية في المواقع الدفاعية، وتُستخدم لنقل الإمدادات والذخيرة والجرحى والجنود بأمان دون التعرض المباشر لنيران العدو. أصبحت خنادق الاتصال جزءًا لا يتجزأ من شبكات الخنادق التي امتدت على طول الجبهات الأوروبية). في هذه الحرب، عرف الجنود أكياس الرمل التي أصبحت عنصراً أساسياً في بناء الخنادق وحمايتها واستُخدمت أساساً لتدعيم الجدران وتوفير الحماية للجنود من نيران العدو.
ووفق الموقع التذكاري للحرب العالمية الأولى، بلغت أطوال الجبهات المجهزة بأنظمة الخنادق على الجبهة الغربية بطول 475 ميلاً تقريباً امتدت من القناة الإنجليزية إلى جبال الألب السويسرية.

وفي الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، تطورت الخنادق لتتناسب مع تغير طبيعة الحرب ودخول عنصر الدروع وتطور القدرات النيرانية والجوية والبحرية، واعتمدت على تصميمات أكثر تكيفًا مع الحركة السريعة والقتال المتنقل.
استخدم السوفييت في معركة ستالينغراد في الجبهة الشرقية، خنادق واسعة ومحصنة، بينما استخدمت قوات الحلفاء خنادق دفاعية لتعزيز نجاحات الإنزال في نورماندي (1944).

تطور إنشاء المواقع الدفاعية ليشمل استخدام الجرافات والمعدات الهندسية الثقيلة لتعزيز الخنادق وتحويلها إلى تحصينات متكاملة، ما جعلها أكثر كفاءة في مواجهة التكنولوجيا الحديثة والأسلحة الفتاكة. لكن التحدي الأكبر كان في جبهة شمال إفريقيا والحرب في الصحراء.

تحديات البيئة الصحراوية
تواجه العمليات الدفاعية في البيئات الصحراوية مجموعة كبيرة من التحديات التي تؤثر بشكل مباشر على فعالية المدافعين واستقرار مواقعهم.
وتعد الطبيعة الرملية من أبرز العقبات التي تعوق استقرار الخنادق، حيث تتميز الرمال بخاصية الانهيار السريع، مما يجعل بناء خنادق متينة وقادرة على الصمود أمام التغيرات البيئية أو الهجمات أمراً بالغ الصعوبة.
إضافة لذلك، تفرض التحديات المناخية في الصحراء مثل الحرارة الشديدة عبئاً كبيراً على الجنود، مما يؤدي إلى الإرهاق واصابة الأفراد بالجفاف وتقليل قدرتِهم على العمل بكفاءة.

كما تُسهم العواصف الرملية، التي كانت تهب في صحاري شمال إفريقيا بكثرة وكانت أحيانا تستمر في بعض المناطق مدة ثلاثة أيام بلا توقف وتصل سرعتها الأرضية من 60 إلى 80 كلم/س، في ردم الخنادق وإضعاف تحصيناتها، فضلاً عن تقليل الرؤية وتعطيل المعدات الإلكترونية.
وعبَّر أحد الجنود الانجليز ويدعى توم باركر عن الرمال التي تحملها الرياح العاتية بقوله: «أنه من شدتها قد تتسبب في تآكل الجلد وحتى إزالة الطلاء عن الآليات بحيث تبدو الآلية وكأنها تعرضت لعملية تنظيف بالرمل».

ووفق قوله، فإنه كان أفضل ما يمكن فعله للهروب من غضب العاصفة هو إخراج سترات الكارديجان (سترات صوفية تسمى جرزايه في بعض الدول العربية) من الحقائب لاستخدامها كمرشح هواء بعد الاختباء في الحفرة التي حفروها والتي تتسع لأجسادهم ثم سحب غطاء الرأس فوقهم والانكماش انتظارا للعاصفة الرملية.
وتؤثر هذه الظروف القاسية أيضًا على البنية الدفاعية بشكل عام، حيث تتطلب عمليات الصيانة الدورية للخنادق والأسلحة والمعدات موارداً وجهودًا إضافية لضمان استمرارية الدفاع.
وتستوجب هذه التحديات تبني حلولا مبتكرة مثل استخدام مواد تدعيم خاصة، واستخدام المعدات الهندسية كالجرافات، وتقنيات التمويه المتقدمة لتحسين استقرار الخنادق وفعالية المواقع الدفاعية.

  إضافة لما تقدم، تمثل التضاريس المفتوحة في الصحراء تحدياً كبيراً للقوات العسكرية في إخفاء مواقعها الدفاعية، حيث تفتقر الصحراء إلى الغطاء الطبيعي مثل الغابات أو التضاريس الجبلية التي يمكن استخدامها للتمويه. تجعل الطبيعة المكشوفة للصحراء المواقعَ الدفاعية والخنادق عرضةً للكشف من قِبل طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية، خاصة مع استخدام تقنيات التصوير الجوي والحراري المتقدمة مما يصعب عملية دمج المواقع مع البيئة المحيطة.
 وشهدت العمليات العسكرية في شمال إفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية تلك التحديات واضطرت القوات لابتكار طرق وأساليب مستحدثة لمجابهة تلك التحديات للبيئية القاسية التي أثرت على الطرفين الرئيسيين في الصراع.

فكان لتحدي صعوبة حفر الخنادق والمواقع الدفاعية في الأراضي الصحراوية أثره على حصول صعوبات لوجستية وتكتيكية عدة لتعزيز المواقع الدفاعية. كانت الرمال غير مستقرة وتنهار بسهولة عند الحفر بعكس المناطق الصخرية في بعض المواقع حيث التربة القاسية صعبة الاختراق باستخدام الأدوات التقليدية.
 وواجه القوات تحدٍ آخر يتعلق بغياب المواد المحلية، فلم تكن هناك مواد التحصين متوفرة مثل الخشب أو الصخور لتدعيم الخنادق وجعلها مقاومة للانهيار. استخدمت القوات البريطانية والألمانية خنادق اتصال لربط المواقع الدفاعية الأمامية مع قواعد الدعم الخلفية وكان حفر هذه الخنادق في الرمال الصحراوية تحديًا كبيرًا للأسباب التي ذكرت آنفا.

وكانت خنادق الاتصال مجهزة بالخرسانة يصل عمقها 2.5 متر مغطاة بألواح خشبية وطبقة خفيفة من الرمال لتسهيل فتحها أينما دعت الحاجة.
كما أثرت الحرارة الشديدة نهاراً والبرودة ليلاً والظروف المناخية القاسية على إجهاد الجنود العاملين في حفر الخنادق ومع نقص الإمدادات والطعام والماء، عانى الجنود من الإرهاق والجفاف الأمر الذي زاد من حدة اجهادهم. وكانت العواصف الرملية المتكررة تردم الخنادق أو تفسد مواقع الحفر.
وللتغلب على تلك التحديات، لجأت القوات الألمانية والبريطانية إلى بناء ملاجئ ومواقع دفاعية باستخدام الكتل الخرسانية أو الهياكل المعدنية التي يمكن نقلها أو تركيبها بسرعة في الميدان.
ووفرت هذه التحصينات حماية فعالة ضد الهجمات الجوية والمدفعية. كذلك استخدمت الخنادق المعززة بأكياس الرمل والخشب، استخدام شباك التمويه لتغطية التحصينات بشباك بلون الرمال لإخفائها من طائرات الاستطلاع المعادية، كما استغلت القوات التلال الصخرية والوديان الموجودة في الصحراء لإنشاء مواقع دفاعية طبيعية أو لتعزيز الحماية ضد القصف.
تجدر الإشارة إلى صعوبات أخرى واجهت الألمان، منها: ضعف التدريب المسبق، فكحالِ العديد من الوحدات الأمريكية التي شاركت لاحقا في الحرب في العراق، فقد تعلم الألمان عمليات القتال في الصحراء فقط بعد وصولهم إلى المنطقة في شمال إفريقيا ومواجهتهم للبيئة الصحراوية بظروفها الخاصة

الحروب ومستقبل المواقع الدفاعية التقليدية
تشهد الحروب الحالية والمستقبلية تطوراً كبيراً نحو تبني أساليب حديثة تعتمد على التقنية المتقدمة، مثل الهجمات السيبرانية، والطائرات المسيّرة، والذخائر الدقيقة، ما يُقلل من فعالية المواقع الدفاعية التقليدية المعتمدة على حفر الخنادق، ولم تعد المواجهات تعتمد فقط على التمركز البري أو التحصينات الثابتة، بل أصبحت تعتمد بشكل متزايد على التنقل السريع، والضربات الجوية الدقيقة، والاستخدام المتزايد للاستطلاع بواسطة الأقمار الصناعية والأنظمة.
   وينعكس هذا الواقع سلباً على الخنادق كوسيلة دفاعية أساسية، لكونها هدفاً سهلاً للرصد والتدمير من خلال التكنولوجيا المتقدمة كما تقدم.

   وبالرغم من ذلك كله وبالرغم من التغيرات في التقنية وظروف ساحة وطبيعة العمليات الحديثة، لا يمكن إلغاء دور الخنادق الدفاعية والتشبث بالأرض، ولا تزال الخنادق تُستخدم في الحروب محدودة النطاق أو في المناطق ذات التضاريس الصعبة، كما يحصل في النزاع الروسي الأوكراني القائم (لجأ المدافعون من كلا الطرفين لإنشاء الخنادق المضادة للآليات وحُفر الخنادق الفردية بشكل بارز)، لكنها تُعدل باستخدام تحصينات مبتكرة ومواد مقاومة للكشف مع التركيز على استخدام المعدات الهندسية. بالنسبة للعمليات في المناطق الصحراوية، سيستدعي المستقبل تطوير الأساليب الدفاعية بمرونة وذكاءً، فاللجوء للتحصينات الثابتة يفضل أن يكون لمناطق تمركز القوات التي تستخدم كقاعدة آمنة تنطلق منها الأنشطة القتالية المختلفة ثم تعود إليها القوات لأغراض الحماية والإيواء والتدريب وغيرها. أما بالنسبة لتحصين المواقع الدفاعية التقليدية عموما، سواء كانت في بيئة صحراوية أو غيرها من المناطق التي تتميز تربتها بسهولة الحفر، فيفضل أن يلجأ إليه متى ما دعت الضرورة القتالية لذلك ولا يكون أسلوبا اعتياديا لتجنب هدر الموارد البشرية والمادية والجهد والوقت بلا طائل يستحق ذلك، ونظرا لتوفر حيز المناورة الواسعة في الصحراء، سيكون من السهل على القوات ذات قابلية الحركة العالية لنقل المعركة في الموقع الأكثر ملائمة لها. أما بالنسبة للحفر في الأراضي التي تمتاز بالرمال الناعمة غير المناسبة للحفر، فينبغي عدم إضاعة الجهود والوقت في استخدام سبل التحصين الميدانية ويفضل اللجوء للخنادق الاسمنتية والقوالب المجهزة مسبقا. أما اللجوء لخنادق الاتصال في الأراضي الصحراوية، فقد أثبتت تجربة قوات الحلفاء والمحور في شمال إفريقيا عدمَ ملاءمتها للبيئة الصحراوية التي توفر المرونة للمهاجم، فمن غير المنطقي هدر الوقت والموارد واجهاد الجنود بلا طائل.

 توصيات ودروس مستفادة
ختاماً، هناك العديد من النقاط التي يمكن تعلمها من حملة شمال إفريقيا والتي يمكن إسقاطها على العمليات المستقبلية، منها:
  ستكون الخنادق متواجدة بغض النظر عن نوع العملية ورغم صعوبة الحفر في أجزاء كبيرة من الصحراء إلا أن الحفرة الفردية أو ما يعرف بخندق الأفراد ثم حفرة الآلية كانا أول شيء يفعله الجنود بمجرد الوصول للمواقع الدفاعية تأمينا للحماية المطلوبة.
  لكن العمل في الصحراء يستلزم تطوير التكتيكات والبعد عن بعض الأساليب التقليدية كخنادق الاتصال التي لا تناسب العمليات السريعة والمتحركة، والتركيز على الحلول المبتكرة للتغلب على معاضل التحصين واستخدام المواد الاعتيادية والتركيز على التحصينات البديلة كالقوالب المصنعة والقوالب الخرسانية المجهزة مسبقا.
  ومن الضروري توفير الوسائل التقنية الحديثة مثل وسائل التمويه الحراري، وتبني استراتيجيات دفاعية أكثر مرونة تعتمد على التحركات السريعة.
  ويعتبر إكمال قاعدة البيانات لتشمل استخبارات الإمداد كفرع مهم ضمن الاستخبارات العلمية لتوفير معلومات جغرافية وجيولوجية دقيقة عن مناطق العمليات المحتملة، أمراً بالغ الأهمية.
 
المصادر:
1.حرب الصحراء: التجربة الألمانية في الحرب العالمية الثانية، لواءAlfredToppe،https://archive.org/details/DTIC_ADA244832/mode/2up?utm_source=chatgpt.com.
2.«الحياة اليومية في حملات الصحراء خلال الحرب العالمية الثانية، مارك كارترايت، https://www.worldhistory.org/article/2513/daily-life-in-the-wwii-desert-campaigns/?utm_source=chatgpt.com

 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-08-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-11-02
2014-03-16
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره