مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2013-05-01

ربع شاعر!

مذ كحّلَ النضجُ جفنَ يومي الأول، وصارَ قلمي، سحابتي المهاجرةِ على صهوةِ هواءِ الصحراء.. ومُذ حملتُ كتابي الأولَ على كتِفي بانتظار الانتهاء منه، لأحمل آخر..آمنتُ بأن تمامَ إدراكِنا للحياةِ وفلسفتها، لا يصيرُ إلا بطرح الأسئلةِ..وآمنتُ أيضاً، بأنها؛ أي الأسئلة...هي طعمُ الوعيِ فينا..
وبأنها، حبرُنا الذي متى غمسناهُ في رئةِ غيمِ غدِنا، تهطلُ الأجوبةُ مطراً يبرعمُ فينا بعضَ أملٍ طازج. قبلها، لم أكُن أعرفُ بأن الأسئلةَ التي امتهنتُ لاحقاً صناعتَها، ولا زلت..لم أكُن أعرِفُ بأنها ستصيرُ سبيليَ، لأملأَ سلالَ أبنائي برغيفٍ حلالٍ طازج. وبأنني، متى قررتُ التوقفَ عن طرحِها، استحلتُ طريداً في مهبِّ البطالة.
لا شيء عندي جديرٌ بأن أقصّه عليكم الآن وعليّ..أيها السيداتُ والسادة..
كلمَّا قرأتُ ديواناً لشاعرٍ عظيمٍ، رأيتُني أخرجُ من ديوانه كمن ينزِلُ السُلّمَ على هيئة أسئلةٍ..سريع الخطى أنزلُ، يجرُّني عقلي إلى سوقِ أسئلة..تُرى، ما هو السرُّ الكامنُ وراء تفوقِّ الشاعرِ على من سواه من الناس، على امتداد تاريخ العرب؟ لا، بل على امتدادِ تاريخِ البشر؟
ألأنهُ يُحسنُ تنويمَنا على أحلامٍ تشبهُهُ، وتشبِهُنا؟ ألأنهُ، حينَ تهزِمُنا الظلالُ الشاحبةُ، يأتينا كمن يُهدِينا الضوءَ مقطوفاً من غصنِ الفجر؟! ألأنهُ، يُطرِّزُ لنا عباءةً من أحرفٍ، ويُدندِنُ لنا نَغماً يُنعِشُ الخيال؟ أم لأنه، يقولنا كما نشتهي؟! أم لأن شاعراً، مثل محمد مهدي الجواهري (توفي عام 1997)، حينَ ينقعُ الدنيا بمائه ثم ينشرها أمامنا بيت شعرٍ عابقٍ به، تصيرُ أحلى؟ هاكَ الجواهري يحيي أستاذنا طوني بن شعشع الزحلي ولادةً وعشقاً وهوى، النيويوركي هجرة ومعيشة، ليعزي المتيمَ فيه بزحلة ولبنان قائلاً:
يا موطِنَ السحـرِ إن الشعـرَ يُنعِشـهُ *** فيضٌ مـن الحسـن في واديكَ معهــودُ
خيالُهُ مـــن خيالٍ فيـــك مأخــــذُهُ *** ولُطـــف معنـــاه مـــن معناكً توليدُ
اهتـــاجني موعدٌ لي فيـكَ يجمعنـي *** كــأنني بالشبــابِ الطلـــقِ موعـــودُ 
وريـــعُ قلبـــي  من ذكـرى مفارقـةٍ *** كــأنني مـــن جنـــان الخلـد مطـرودُ 
لا أبعــــد الله طيفــاً منك يؤنسني *** إذا احتوتنـيَ فـــي أحضانهـــا البيـــدُ
أسئلةٌ بحجمِ الأرضِ، ساعةَ تكونُ مُشرّعةَ الجهاتِ...والإجاباتِ كذلك..وأسئلةٌ على قياسِ لغة ضادنا الجميلةِ، حينَ تكونُ بِكراً فاتنة لم يُفلسِفُها أحدٌ بعد، والإجابات كذلك. لأجل ذلك كله، مما يحضُرُني، ولا يحضُرُني، مما أعلمه ولا أعلمه، حاولتُ أن أصير شاعراً، ككلِ عربيً..ككلِ أحدٍ..وفشلتُ! ولكني، نجَحَت! نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجح، حين تَعَلَمتُ من أبي الأسود الدؤلي (توفي عام 69 هجري) ما علّمه لأحد تلامذته في فنِّ العروض :إذا لم تستطع شيئاً فدعه..وجاوزه إلى ما تستطيعُ
وعلمني صديقي جميل صدقي الزهاوي (المتوفى 1936م) على سبيلِ اليقينِ حقيقةً جعلتني أُحجمُ: إذا الشعرُ لم يهزُزكَ عندَ سماعِهِ...فليس خليقاً أن يُقالَ لهُ شعرُ 
وأيضاً، نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجحُ، إلى حيث أرضى أن أصير ربع شاعرٍ بهم، لا شبه شاعرٍ بدونهم..ونجحتُ أن أفلتَ من فشلي إلى حيث أنجحُ، إلى حيثُ أنصبُ خيمتي وألتصقُ بما شردَ من شعرهم، وأتعلم..نعم لأتعلم، لأتعلم من صديقي الطُغرائي (توفي 1120م) أن ما يليق بي هو حتماً أرقى من الدَعةِ والكسل: قد هيأوك لأمر لو فطنتَ له...فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وتعلمتُ، نعم، تعلمتُ من البوصيري (توفي 1295م) واتخذته مستشاراً ناصحاً حازماً استعين به حين يحتاج الرأي المشورة، فحرضني على الجد، وأخبرني أني إن أطلقت لنفسي العنان فسأكون مثل شابٍ عشريني له جسم بغل، لكنه لا يتغذي إلا بالرضاعة من ثدي أمه: قال لي: والنفسُ كالطفل إن تُهملهُ شب على..حُب الرضاع وأن تفطمه ينفَطِمِ
وحين أردتُ الشكوى لحظة يحجِبُ ضبابُ الدُنيا عني آفاقَ الممكنِ، وجدتُني ألجأ إلى أبي العلاء المعري (توفي 1057م)، ليُخَفِفَ عني، بقوله: كُلُ من في الدهر يشكو دهره.....ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
ولم يكن أحدٌ يُخرجني من دوامةِ الكآبة، مثل صديقي إيليا أبوماضي المتوفي (1957 م)، فيُذَكِّرُني :
أيهذا الشاكي وما بكَ داءٌ....كيف تغدو إذا غدوتَ عليلاً؟!
وحين أُجيبه: يا إيليا، وكيف لا أشكو وأنا الذي بيني وبين حِلمي  زمنٌ جبانٌ وبعض تعاسة؟!
كان يوقظني، بمحبة وحزم: أيهذا الشاكي وما بك داء...كن جميلاً ترى الوجود جميلاً 
فأجعُرُ كشاةٍ تُساق لحتفها: أيُ جمالٍ في دوامة القبح هذه؟!
فيبتسم، كمن قبض في قلبه على مكمن سرِّ الحياة، قائلاً: والذي نفسه بغير جمالٍ...لا يرى في الحياة شيئاً جميلاً
وقد عشقتُ ابنتي، مي "حفظها الله" لا لأرد لها دين، قول العرب: كل فتاةٍ بأبيها مغرمة...بل لأني أحسستُ أننا نسيرُ على خطوات كيمياء الإنسان ذاتها...ولم أجد أني أحتاج لأعلنَ حُبي لها، أن أدمع عليها، كما احتاج صاحبي مالك بن الريب (توفي 594م)، وهو يرثي ابنته قائلاً: اسكتي! قد حززتِ بالدمع قلبي..طالما حزَّ دمعُكنَّ القلوبا 
فقد كانت بُنيتي تريقُ مدامعي كل يومٍ بمحبة واحترامٍ وسعادة...وعند الدمعِ، لم أجد أصدقَ من أبي الطيب المتنبي، يوم قال:
اذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ...تبينَ من بكى ممن تباكى!
يا أهيل الشعر: تلك كانت شذراتٌ من قصة ربع شاعر هو أنا..وشذراتٌ من قصة عظامٍ هُمُ، هم: أصدقائي، أشُمُهم رئتي كلما احتجتُ حكمة نظيفة..وأصعدُ سلالمهم، حكمة حكمة، بيتَ شعر بيتَ شعر، كلما احتجتُ الارتفاع بحجتي..إلى فوق!! .
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره