يوم كنت اتعثر بقدمين صغيرتين حافيتين في أزقة حينا القديم، تلك الأزقة الضيقة لذلك الحي الذي هجرناه منذ زمن..يوم أطلت المدينة الأخرى بكل تحولاتها وإغراءاتها البراقة.
مع ذلك فلازالت كل التفاصيل مثبتة في مكان قصي بمسامير طويلة تشبه أيام الفراق القاسية.
ففي مكان قصي ، في شبه زاوية محصورة تطل امرأة تشبه هيكلاً بشرياً تعيش بصحبة عجوز آخر هو شقيقها، وتلك الشجرة العجوز الثابتة معهما كفزاعة الحقول أمام بيت العجوزين لا تزال معلقة في ذاكرتي، كقنديل ضخم.
الخوف من الجنية التي قيل لنا بأنها تطعم صغارها تحت الشجرة كل مساء
الحوش الكبير في منتصف الحي الذي يشبه قارة بعيدة، والغرباء الذي يسكنونة بثيابهم العجيبة!
البدوي الذي يجلس صامتاً كقبر أمام خيمته في أقصى الحوش
يشرب قهوته المرة وأمامه صقر مهيب مغطى العينين
الدكان الضيق .. المليئ بعلب الحلوى
والبائع الضخم ذو الوجه المصاب بالجدري
وتلك التي كانت تطعم البحر طعامنا كل يوم
تلك المرأة السامقة كشجرة والمخيفة كعنقاء
تسرق طعام الناس كل يوم وتلقيه في وسط اللجة
وتعود مبتسمة .. لا يزال وجهها ساطعاً كجرح غائر في ذاكرتي
كانت كحارس البحر تطعم البحر والأسماك والأصداف وتتركنا نتضور جوعاً !
صباحات الشتاء الباردة أمام موقد الجمر وخبز جدتي الذي أحن إليه
نهارات الصيف وورق الخريف المتساقطة
احتفالات البحر والعاصفة والنوارس التي يضيئ بياضها سماء البحر..
مواء القطط ونباح الكلاب يرن وقت السحر كأصوات بعيدة في قصة خرافية
رحيل جدي، وانسحاب ظل أبي من البيت، وموت خالي وبكائي ومرارات الفقد، وصبابات الهوى في أول العمر..
يا الله من ذا لا يتعب من ذاكرته، من ذا لا يشقى بها .. لا شيئ ينقص منها ..
لا يوجد تعليقات